شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

ولكن بعثني مُعَلِّماً مُيسراً

بعث الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم مبشراً ونذيراً، ومعلماً وميسراً، ومربياً ومزكياً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الأحزاب:45-46)، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة:2)، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيسراً) رواه مسلم.

وقد وصف جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه العرب قبل الإسلام بقوله: “كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف” رواه أحمد، ومع ذلك دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلَّمهم وأحسن تربيتهم، وقادهم وساسهم أحسن قيادة، مع قسوة قلوبهم وخشونة أخلاقهم، واختلاف طبائعهم وأهوائهم، واحتمل ما هُم فيه من شدة وغلظة، وصبر منهم على الأذى، حتى كانوا خير أمة بعد أن لم يكن لهم قيمة ولا وزن، {وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة:2)، والذي يعرف الجاهلية التي كان العرب يحيونها قبل الإسلام، وكيف أنها كانت تمثل انتكاسة في الفطرة والعقيدة والأخلاق، سيعرف كم هو الجهد الكبير الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم معهم، حيث أحدث تغييراً جذرياً بالعودة بهم ـ مجتمعاً وأفراداً ـ إلى الفطرة السليمة، والتوحيد الصافي، والأخلاق الطيبة في زمن قياسي في عمر المجتمعات والدول والشعوب.

إقرأ أيضا:التسامح النبوي

يقول الروائي الروسي ليف تولستوي الذي يُعد من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، في مقالة له مشهورة بعنوان: من هو محمد؟! : “إن محمداً هو مؤسس ورسول، كان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه أهدى أمة بِرُمتها إلى نور الحق، جعلها تجنح إلى السكينة والسلام”، ويقول أيضاً: “يكفي محمداً فخراً، أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمد ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة”.

ومن ثم فمن العجب وجود دعوات ـ كانت ولا زالت ـ تنادي بضرورة نقل أسلوب التعليم والتربية من الغرب العلماني أو غيره دون نظرٍ إلى المبادئ والقيم والثوابت الشرعية في ديننا، والمستمدة من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، نعم إننا قد نستفيد منهم في بعض الوسائل، أما أن نأخذ ما يصادم ثوابت الإسلام وعقائده وقِيَمِه فلا.

ومن الأمور الممعلومة من حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم: اهتمامه بتربية وتعليم أصحابه، ما يجعل سيرته العطرة زاخرة بالأساليب التربوية والتعليمية الصالحة لكل زمان ومكان، فقد أُوتِيَ صلى الله عليه وسلم الكمال البشري، وعُصِم من الخطأ، وأُعْطِيَ ـمع أميتهـ علماً لا يدانيه فيه أحد، وفصاحة وحكمة لم ولن يبلغها أحد من الناس، قال الله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء: 113)، وهو القائل: (أوتيت جوامع الكلم) رواه أحمد.

إقرأ أيضا:النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الرؤى والأحلام

قال القاضي عياض: “(أوتيت جوامع الكلم) أي مع كوني أميًّا”. وقال الجاحظ في تعريفه بالمراد من “جوامع الكلم”: إنه “الكلام الذي قلّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه! وجلّ عن الصنعة، ونُزّه عن التكلف، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حفّ بالعصمة، وشيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلّت به قدم .. ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أقصد لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فَحْوَى (معنى) مِن كلامه صلى الله عليه وسلم”.

ومن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والتربية مراعاته لحال المخاطَب والمتعلم والمُرَبَّى. وهناك سمات ثابتة في هذا المنهج، لا تكاد تفتقدها وأنت تطالع السيرة النبوية، مثل: الرفق واللين والرحمة، كيف لا وقد قال الله تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران:159)، وقال هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم، وهناك كذلك في هذا المنهج النبوي التربوي سمات عارضة مثل: الشدة والزجر، والمزاح والمداعبة، والتي تستدعيها حالات ومواقف معينة، تتطلب أسلوباً خاصاً من التعامل مع المتعلم والمُرَبَّى، والأمثلة على ذلك في السيرة النبوية كثيرة:

إقرأ أيضا:مواقف نبوية للأزواج

الرفق واللين:

عن أنس رضي الله عنه قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ (ما هذا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُزْرِموه) -أي: تقطعوا بوله- (دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فصبه عليه) رواه البخاري.

وعن أبى هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد تحجَّرت (ضيقت) واسعاً ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سَجْلا من ماء) رواه أبو داود.
قال النووي: “وفيه الرّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافاً أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما”.

الشدة والزجر:

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أساببت فلانًا؟) قلت: نعم، قال: (أفنلت من أمه؟) قلت: نعم، قال: (إنك امرؤ فيك جاهلية) رواه البخاري. وهذا الحديث يدل على مشروعية التأديب بالتوبيخ، قال ابن حجر: “وجه الاستدلال من الحديث على مشروعية التأديب بالتوبيخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم عذل أبا ذر رضي الله عنه وأدبه باللوم والتأنيب، بقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، لأجل مقالته للرجل، وتعييره إياه بأمه، فدل ذلك على جواز مثل هذا النوع من التأديب”.

وعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. قال ابن عثيمين: “ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان يستعمل الحكمة في تغيير المنكر، فهذا الرجل كما ترون استعمل معه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الشدة، لكن الأعرابي الذي بال في المسجد لم يستعمل معه النبي عليه الصلاة والسلام الشدة، ولعل ذلك لأن هذا الذي لبس خاتم الذهب علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان عالماً بالحكم والتحريم، ولكنه متساهل، بخلاف الأعرابي فإنه كان جاهلاً لا يعرف، جاء ووجد هذه الفسحة في المسجد، فجعل يبول، يحسب نفسه أنه في البَر، ولما قام إليه الناس يزجرونه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكذلك استعمل النبي صلى الله عليه وسلم اللين مع معاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة، وكذلك مع الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان فلكل مقام مقال”.

الجدية والعمل، والمزاح والمداعبة:

من السمات الثابتة في المنهج النبوي في التربية والتعليم: الجدية والعمل، وحمل همِّ الإسلام وتبليغه والدعوة إليه، ومحاولة هداية الناس والأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية والفلاح.. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، حتى كادت نفسه أن تخرج بسبب إعراض بعض مَن يدعوهم إلى الإسلام، حتى قال الله عز وجل له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف:6) قال ابن كثير: “أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات”.

أما المزاح والمداعبة وإن وُجِدَا في أمثلة متعددة في السنة والسيرة النبوية فإنهما مطلوبان، لكنهما من السمات العارضة، والحكمة وضع الجد في موضعه ووقته، والمزاح في موضعه ووقته، ومعلوم أنه لا يوجد من تعددت لديه الواجبات كما تعددت لديه صلى الله عليه وسلم، فقد كان نبياً ورسولاً، وإماماً للناس ومعلماً، وحاكماً وقاضياً، ومحارباً وقائداً للجيوش، كما كان أباً وزوجاً، ومع هذا كله فقد كان صلى الله عليه وسلم ضحاكًا بساماً، يربي ويهذب بالابتسامة والممازحة، فلضحكاته منافع، ولابتساماته وممازحاته مقاصد وفوائد. قال النووي: “المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله”. وقال رجل لسفيان بن عيينة: “المزاح هجنة، أي مستنكر؟! فقال: بل هو سُنَّة، ولكن لمن يُحسنه، ويضعه في موضعه”.

إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها صلوات الله وسلامه عليه في تعليمه وتربيته لأصحابه والأمة من بعدهم؛ حرصاً منه على أن تنتقل توجيهاته الكريمة وتعاليمه النبوية من مرحلة القول والسماع إلى مرحلة التطبيق والفعل للمتعلم والمُرَبَّى، فقد كان من هديه ومنهجه صلى الله عليه وسلم: الرفق واللين، والشدة والزجر، والجد والعمل، والمزاح والمداعبة، ولكل مقامٍ مقال وحال.

السابق
من ينصرني حتى أُبَّلِّغ رسالة ربي
التالي
الأَنَاة والتبين في الهدي النبوي