الإسلام طريق الإبداع
إنّ دين الإسلام هو دينٌ وسطيٌ لا يدعو إلّا إلى فضيلة، ولا ينهى إلّا عن أمرٍ فيه ضرر بالناس إمّا على الأفراد أو الجماعات، وهو دين الاعتدال، فقد حارب الإسلام الغلوّ والتطرُّف بجميع صوره وأشكاله، فإذا جاء الأمر بتحريم أمرٍ من الأمور أو فعلٍ من الأفعال فإن ذلك التحريم يكون منضبطاً بعللٍ وأسباب، ولا يمكن أن يكون التحريم عبثيّاً، وقد أبدع الله سبحانه وتعالى في خلق السماوات والأرض وما فيهنّ من جبالٍ وأشجار ودوابّ، كما أبدع في خلق الإنسان وتصويره على نحوٍ يعجز الناس عن تقليده أو الإتيان بمثله، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، كما أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل في كلِّ نفسٍ بشريةٍ خلقها جوانب إبداعية، فمن الناس من يُبدع في علمٍ معيّن، ومنهم من يبدع في تطوير أو اختراع أمرٍ من الأمور، ومنهم من يُبدع في أشياء وأمور أخرى كالرَّسم مثلاً أو التمثيل أو الغناء أو غير ذلك مما أعطى الله الإنسان من جوانب إبداعية، فهل ممارسة بعض تلك النشاطات الإبداعية -كالرسم مثلاً- منهيٌ عنها في الإسلام؟ وما هو حكم الرَّسم شرعاً؟
معنى الرسم
- الرسم في اللغة: مصدر رَسَمَ يَرسُم، أو يَرْسِم رَسْمًا، فهو راسم، ورسَمَ الشَّيءَ: بمعنى خطّه، وقولهم: رسَم الكتابَ بمعنى كتبه.
- الرسم في الاصطلاح: هو تعبير تشكيلي يستلزم عمل علاقة ما على سطح ما، وهو التعبير عن الأشياء بواسطة الخط أساساً أو البقع أو بأي أداة، وهو شكل من أشكال الفنون المرئية، والفنون التشكيلية وأحد الفنون السبعة، وقد يكون الرسم تسجيلاً لبعض الخطوط السريعة، أو تسجيلاً لشيءٍ من الملاحظات أو بعضٍ من المشاهد والخواطر بحيث تكون شكلاً ما في لحظة معيّنة، وقد يكون الرسم كذلك أعمالاً تحضيرية لوسائل أخرى التي تُستخدم للتعبير الفني، ولكن الرسم في الغالب ما يكون عملاً فنيّاً له استقلاليته التامة فيكون فنّاً قائماً بذاته.
حكم الرسم
لم يترك الفقهاء مسألةً من المسائل التي تهمُّ الناس وتتعلق بحياتهم وتعاملاتهم حتّى بيّنوا حكمها الشرعي، وقد ذكر الفقهاء بعض الأحكام العامة للرسم بناءً على ما ورد من نصوص شرعيّة تتعلق به، أو أنّهم بَنوا أحكامهم على اجتهادات فقهيّة أخرى لمسائل تُشبه مسألة الرسم، وفيما يلي بيان ما ذكره العلماء في حكم الرسم:
إقرأ أيضا:التدخين حرام شرعا- الرَّسمُ المباحٌ بلا بأس: ويكون ذلك في رسم الأشجار والمناظر الطبيعية وما إلى ذلك، فيجوز رسم كلّ ما لا روح له من المخلوقات كالشجر، والحجارة، والبحيرات، والأنهار وغير ذلك من المشاهد الطبيعية، ودليل ذلك ما أورده مسلم في صحيحه أنَّ رجلاً جاء إلى ابن العباس -رضي الله عنه- فسأله قائلاً: (إني رجلٌ أُصوِّرُ هذه الصُّوَرَ فأَفتِني فيها، فقال له: ادنُ مني، فدنا منه، ثم قال: ادْنُ مني، فدنا حتى وضع يدَه على رأسِه، قال: أُنبِّئُك بما سمعتُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: كلُّ مُصوِّرٍ في النارِ، يجعل له بكل صورةٍ صوَّرَها نفسًا فتُعذِّبُه في جهنَّمَ. وقال: إن كنت لابدَّ فاعلًا، فاصنعِ الشجرَ وما لا نفسَ له، فأقَرَّ به نصرُ بنُ عليٍّ)، وفي ذلك دليلٌ واضحٌ على إباحة رسم ما لا روح فيه كالأشجار والأنهار والبُحيرات.
- الرَّسم المُحرّمٌ بالإجماع: فقد أجمع الفقهاء على أنّ الرسم يكون مُحرّماً إذا كان لذوات الأرواح أو كان مجسّماً لشيءٍ مُعيّن، وقد نُقل الإجماع على تحريم الرسم على هذا النحو عن الإمام النووي، حيث قال في شرحه لصحيح مسلم: (وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره)، أمّا الرسم بواسطة اليد على لوحات ورقيّة أو قماشيّة، أو على الجدران وغير ذلك فذلك محرّمٌ عند جمهور أهل العلم، ودليلهم هو ما جاءت به الأحاديث النبويّة الشريفة، حيث جاءت في مجموعها مطلقةً غير مقيّدة أو مُخَصَّصة لرسمٍ عن آخر، ولم تفرّق تلك النصوص كذلك بين رسمٍ مُجسَّمٍ، ورسمٍ غير مجسَّم، ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الَّذينَ يصنَعونَ هذِه الصُّوَرَ يُعذَّبونَ يومَ القيامةِ، يقالُ لَهم: أحيوا ما خلقتُمْ)، كما جاء في صحيح مسلم عن سعيد بن أبي الحسن -رضي الله عنه- أنه قال: (جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجلٌ أُصوِّرُ هذه الصُّوَرَ فأَفتِني فيها، فقال له: ادنُ مني، فدنا منه، ثم قال: ادْنُ مني، فدنا حتى وضع يدَه على رأسِه، قال: أُنبِّئُك بما سمعتُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: كلُّ مُصوِّرٍ في النارِ، يجعل له بكل صورةٍ صوَّرَها نفسًا فتُعذِّبُه في جهنَّمَ. وقال: إن كنت لابدَّ فاعلًا، فاصنعِ الشجرَ وما لا نفسَ له، فأقَرَّ به نصرُ بنُ عليٍّ)؛ ولعلّ الحكمة من تحريم رسم ما فيه روح؛ أنَّ في ذلك مضاهاةً لخلق الله وتشبيهاً به، ولأنّ اتخاذ صور ورسومات ذوات أرواح يُعتبر من الوسائل المفضية إلى الشرك، كما أنَّ في ذلك تنفيراً للملائكة ومنعهم من دخول البيوت التي توجد فيها تلك الرسوم والصور، حيث يروي مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تَدْخُلُ الملائكةُ بيتًا فيه صورةٌ، قال بُسْرٌ: فمَرِضَ زيدُ بنُ خالِدٍ فعُدْناهُ، فإذا نحن في بيتِه بسِتْرٍ فيه تَصَاوِيرُ، فقلتُ لعُبَيْدِ اللهِ الخَوْلَانِيِّ: أَلَمْ يُحَدِّثْنا في التَّصَاوِيرِ؟ قال: إنه قال: إلا رَقْمًا في ثوبٍ، أَلَمْ تَسْمَعْهُ؟ قلتُ: لا، قال: بَلَى، قد ذكر ذلك).
- جواز رسم ذوات الأرواح إذا كان فيه نقص: فقد رأى بعض أهل العلم جواز رسم ما له روح، إن كان المرسوم ناقص الخِلقة، بحيث لا يمكن له الحياة بوجود ذلك النقص، على فرض كونه حقيقياً، كأن يُرسم دون الرأس أو يُرسم منه النصف فقط، أو نحو ذلك، ودليل من رأى ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أمَّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن تقوم بتقطيع الثوب الذي كان فيه رسومات، فجعلت منه وسادتين ليجلس عليهما النبي -صلى الله عليه وسلم-.
حكم الرسم إجمالاً عند الفقهاء:
إقرأ أيضا:كيفية توزيع الاضحيةأمّا النتيجة التي يُمكن الوصول إليها بشأن حكم الرسم إجمالاً حسب ما رأى الفقهاء فهي على النحو الآتي:
- لا يكون الرَّسم مُحرَّماً إذا لم يحتوِ على ما فيه روح كأن يتعلَّق بمظاهر الطبيعة كالأشجار والجبال والوديان والسهول والورود وغير ذلك.
- لا يكون الرَّسم مُحرَّماً إذا كان ذو الروح المرسوم ناقص الخِلقة غير تام، كأن يُرسم بلا رأس، أو يُرسم نصفه الأعلى فقط دون الأسفل.
- يكون الرسم حراماً إذا كان لذي روحٍ وكان المرسوم كامل الخلقة، أمّا إذا تمَّ الرسم على الهيئة التي تَحرُم وكان ذلك ما يجري استخدامه في العادة كالسجاد والبُسُط والملابس فيكون الأولى إبقاؤه ولا يجب إتلافه، لأنّ في إتلافه تفويت منفعة، شريطة ألا تكون تلك الرسومات مُعظّمةً في أصلها