دكتور/ عمرو شريف
اتباعاً للحكمة العربية “وشهد شاهد من أهلها” نلقي الضوء على أسلوب ريتشارد دوكنز ومنهجه.. من خلال طرح ردود أفعال بعض الملاحدة وأنصار الداروينية تجاه كتابه الأخير “وهم الإله”.
يقول الفيلسوف الملحد مايكل روس[1]: “لقد جعلني كتاب وهم الإله أشعر بتوتر وارتباك Embarrassed. فالكتاب الذي يعالج في المقام الأول قضية الأخلاق يتبنى حملة صليبية لا أخلاقية، تتسم بالتكبر والعجرفة. فدوكنز لا يتحدث كفيلسوف يعالج الأدلة ليصل إلى استنتاجات منطقية، ولكن كواعظ أصولي يرسم طريق الخلاص ويهدد بالطرد من الرحمة” ثم يطرح روس تساؤله: ” إذا كان الإله غير موجود، فلم هذا التطرف الشديد ضد الدين”؟!.
ويفيض الكيل بالفيلسوف الملحد توماس ناجل[2] بسبب أسلوب دوكنز في الحديث عن الإله، فيقول: “يهدف دوكنز في كتابه إلى إنكار أن الدين هو مصدر آداب السلوك Etiquette التي تسود الحضارة المعاصرة، وقد أخذ يكرر هذا الإنكار بطريقة كريهة ومقرفة offensive قدر استطاعته”.
هكذا تخلى الكثيرون من أنصار دوكنز عنه بعد أن مارس غروره بتلقائية شديدة في كتابه الأخير، وملأه ببذاءات كثيرة، منها:
إقرأ أيضا:شك داروين.. نظرية محدودة وتَنَبُؤ بانهيار الفروض!- عندما يعاني شخص من أوهام نصفه بالجنون أما عندما يعاني مجموعة من الناس من الأوهام فإننا نعتبرهم متدينين.
- يعاني المسيحيون أصحاب الذكاء الأقل من المتوسط من إحساس مزمن بالذنب، يجعلهم في حالة صحية متدهورة يصعب الشفاء منها.
وقبل ذلك كله، يفتضح موقف دوكنز العدائي من الإله من عنوان كتابه، الذي ينكر فيه وجوده ويصف فيه مخالفيه بأنهم واهمون.
ويُشخِّص سكوت هان سبب ما ينضح به الكتاب من تدني أخلاقي قائلاً: “إن الكتاب لاذع جارح مليء بالغضب، ويُعَد سقطة مخجلة لدوكنز، ولا يُصنَّف كعمل فكري موضوعي. إنك تشعر وأنت تقرأه أنك أمام محاولة يائسة من شخص يعصف به الضيق، لأنه لم يستطع التخلص من معارضيه الذين لا يزالون يملئون الساحة. إن الكتاب يبدو كهذيان شخص ملأه الغرور والزهو بعد أن أفرط في شرب الخمر، فأخذ يبعثر سبابه الحاقد على من لا يشاركونه الرأي”.
لذلك كله يحذر الفيلسوف المتدين ألفن بلانتنجا القارئ لكتاب “وهم الإله” أن ينظر إليه باعتباره عملاً عقلانياً، فالكتاب ينوء بقدر يثير الدهشة من اللاموضوعية والإهانة والشتيمة والسخرية والاستهزاء.
سفسطائي مبتدئ، مزيِّف للحقائق
بالإضافة إلى أسلوبه الساخر المتهكم المتدني، يلجأ دوكنز إلى المنهج السفسطائي[3] ليثبت وجهة نظره بغض النظر عن التماس الحقيقة، فيقع في أخطاء منهجية ومغالطات منطقية، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة، ليس على سبيل الحصر ولكن كنماذج لما ننسبه إليه.
- من حيل المنهج السفسطائي أن يطرح المُحاور النتيجة التي يطمح في الوصول إليها كمقدمة ثابتة دون برهان[4] . انظر إليه وهو يقول: “لا أظن أن ملحداً واحداً في العالم يمكن أن يدمر مكة أو كنيسة نوتردام أو معابد كيوتو أو تماثيل بوذا في باميان بأفغانستان. ألم يسمع دوكنز عن عشرات الآلاف من المساجد والكنائس التي دمرها النظام الملحد في الاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى المجازر التي ذهب ضحيتها الملايين من المسلمين والمسيحيين. إن هذا الخطأ المنهجي في تقديم النتيجة المرجوة كمقدمة ثابتة يعكس جهلاً كبيراً أو تزييفاً متعمداً للتاريخ.
- ومن السقطات العلمية لدوكنز موقفه من قضية: المعلومات أم المادة أولاً؟ فدوكنز يتبنى -كغيره من الماديين- أن المعلومات يمكن أن تتراكم في المادة تلقائياً. ويرفض دين كينيون البيولوجي الفيزيائي الكبير هذا الرأي، قائلاً: ” كلما ازدادت معارفنا عن كيمياء الحياة، خاصة في مجال البيولوجيا الجزيئية، كلما قل تقبلنا للتفسيرات الفيزيائية والكيميائية لأصل الحياة. إن العلم الحديث يخبرنا أن المعلومات التي يحملها ال(DNA)لا بد أن يكون أصلها مصدر ذكي، ما هو؟ هذا خارج نظاق العلم، وينبغي أن يُترك للدين والفلسفة”.
- عندما وجه أحدهم سؤالاً إلى دوكنز عن الأمور التي يعتقد أنها صواب بالرغم من أنه لا يملك دليلاً عليها، أجاب دوكنز: إني” أعتقد أن الكون نشأ تلقائياً من العدم، وأن الحياة وجود مادي، وأن العقل البشري من نتاج الانتخاب الطبيعي كما وصفه دارون. لقد انطلق دوكنز في كل هذه القضايا الجوهرية من ” الاعتقاد” بدون دليل علمي أو فلسفي.
- من سقطات دوكنز الكبيرة، أنه حمل مقولات آينشتين حول “الإله” على أنه يقصد بها “الطبيعة”، كما يصر دائماً على أن يَنسب أينشتين إلى الإلحاد أو إلى وحدة الوجود Pantheism. هذا في الوقت الذي يؤكد فيه آينشتين إيمانه بوجود عقل حكيم هو المنشئ والمدبر لقوانين الطبيعة. كذلك يؤمن الكثيرون من علماء الفيزياء الكبار المعاصرين أمثال هيزنبرج وبلانك بما يؤمن به أينشتين، ولكن دوكنز ينفي عنهم ذلك الإيمان، ويُصر على أن يضمهم على زُمرة الملحدين الذين يؤمنون بأن “ما لا يمكن رصده لا وجود له”.
- يوجه الفيزيائي الكبير جون بارو نقده الساخر لدوكنز، قائلاً له: إن ما تعانيه من مشاكل مع الدين يرجع إلى أنك لست عالماً حقيقياً، فأنت من البيولوجيين ولست من الفيزيائيين!، لذلك فأنت تعجز عن تصور حجم ما في الوجود والحياة من تعقيد. ويضيف جون بارو موجهاً نقده اللاذع لدوكنز: إنك ما زلت محكوماً بعقدة البيولوجيين التطوريين في القرن التاسع عشر، ورغبتهم في إثبات وجهة نظرهم بأي ثمن، ولو على حساب الحقيقة، ولا شك أن ليَّ الحقائق لا يُعين كثيراً أو قليلاً في فهم القوانين التي تحكم الكون.
هل يُقارن دوكنز ببرتراند رَاسل؟!
يُروِّج البعض أن الفيلسوف الكبير برتراند راسل هو الأب الروحي لدوكنز، باعتبار أن رَاسل معارض قوي للأديان السماوية، وأنه يُطعِّمُ معارضته بكثير من السخرية والتلميحات والمبالغة، إلا أن هناك اختلافاً شاسعاً بين الرجلين.
تخبرنا كاترين تيت Katharine Tait ابنة رَسل في كتابها ” أبي، برتراند رَاسل” My) father, Bertrand Russell) أن والدها كان يشعر دائماً بوجود مكان شاغر في عقله وفي قلبه، مكان كان يشغله الرب عندما كان رَاسل صبياً، ثم أصبح خاوياً ولم يعثر على شيء يملؤه. وتقول كاترين إن والدها كان يشعر دائماً أن جوهر الإنسان لا ينتمي إلى هذا العالم المادي، وأنه أخذ منذ بداياته الفلسفية وطوال حياته يبحث عن الإله باهتمام ومثابرة.
وكما يحدث مع المفكرين الكبار، اصطدم برتراند راسل (كما تخبرنا ابنته) بالعديد من المسيحيين المتعصبين والكئيبين، الذين يعرضون الدين بأسلوب يُذهب بسماحة العلاقة بين الله والإنسان، وكذلك بين الإنسان والإنسان، كما يُذهب ببهجة الحياة، مما جعله ينفر من الدين بالكلية، ووصل الأمر إلى أنها فشلت تماماً في أن تدخل مع والدها في أي حوار ديني.
أين هذه المعاناة داخل نفس برتراند راسل من أجل البحث عن الحقيقة من العماء الذي يعاني منه ريتشارد دوكنز.
كذلك فات دوكنز أن مَثَلَه الأعلى المدَّعَى، برتراند راسل قد وصف نفسه بأنه يتبنى (أو ينشىء) مذهباً فلسفياً جديداً كل بضعة سنوات، وهذا دأب معظم الفلاسفة الكبار مثل أنتوني فلو.
ويقارن دوكنز بين برتراند راسل باعتباره فيلسوفاً ملحداً يتحرى أمانة الفكر، وبين الفيلسوف أنتوني فلو، فيقول إن فلو أعلن ارتداده عن الإلحاد بعد أن كَبُر في السن، وأنه أعلن “أن هناك إلهاً” حتى يملأ الإعلام ضجيجاً حوله، بينما كان برتراند رسل فيلسوفاً كبيراً حصل على جائزة نوبل. هل لاحظت السخرية والمقابلة بين وصف فلو بأنه ” كَبُر في السن وبين وصف رسل بأنه “فيلسوف كبير”؟ لقد فات دوكنز أن المفكرين الحقيقيين يقيِّمون الحجج والبراهيم دون النظر إلى عرق أو جنس أو عمر، هذا هو منهج دوكنز وسلوكه الأخلاقي إذا عجز عن تفنيد ما يقال، يترك الموضوعية ويهاجم الشخص ببذاءة.
ونختم حديثنا عن حقيقة دوكنز بأنه ينتمي إلى مجموعة من الكتاب العلميين أمثال كارل ساجان وإسحق عظيموف الذين لايكتفون بأن يكونوا علماء وكتَّاباً، بل يعتبرون نفسهم كهنة العلم فيرتدون مسوح الوعاظ، ويلقون على الناس الخطب باعتبارهم مبعوثي العناية العقلية، الذين يحددون ما يُسمح بأن نؤمن به من الغيبيات، ويستنزلون على مخاليفهم اللعنات.