وُلِدَ نبينا صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، والمُجْمَع عليه أنه عليه الصلاة والسلام وُلِدَ عام الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم. وقد شاء الله عز وجل ـ بحكمته ـ أن يولد وينشأ نبينا صلى الله عليه وسلم يتيماً، واليتيم لغة: هو الانفراد أو الفرد من كل شيء، واصطلاحاً: هو الصغير الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ، وعرفه ابن تيمية بأنه: “هو الصغير الذي فقد أباه”، وقد يُطلق على اليتيم بعد بلوغه لفظ يتيم وهو إطلاق مجازي، وذلك باعتبار ما كان, كما كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم وهو كبير: يتيم أبي طالب, لأنه رباه بعد موت أبيه.
تُوفي عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم قبل مولده، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه، قال ابن إسحاق: “ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أن توفي وأم رسول الله حامل به”. وقال ابن سعد في الطبقات: “خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام، إلى غزة، في عير من عيران قريش، يحملون تجاراتهم، فلما فرغوا من تجارتهم مروا بالمدينة، وعبد الله يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله فقالوا: خلفناه عن أخواله في المدينة وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث، فوجده قد تُوفي، ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه، وأخبره”. ولم يَعِش صلى الله عليه وسلم مع أمّه ـ آمنة بنت وهب ـ كثيراً، ففي السادسة من عمره تُوفيت أمه، قال ابن هشام في السيرة النبوية: ” توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة”، وقال ابن كثير: “..وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل: بعد أن وُلِدَ عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب“.
إقرأ أيضا:النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبحيراولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج به أبو طالب تاجراً إلى الشام حتى وصل إلى بُصرى (بالشام)، وكان في هذه البلد راهب عُرِف ببحيرا، له مع النبي صلى الله عليه وسلم موقف روته كتب السيرة والسنة النبوية، ظهر من خلاله علمه بعلامات وصفات نبي آخر الزمان وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي منها أنه سيكون يتيماً، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا (طلعوا) على الراهب (زاهد النصارى)، هبطوا فحلوا رحالهم (أنزلوها وفتحوها)، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، فبينما هم يحلون رحالهم جعل الراهب يتخللهم (يمشي بينهم) حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ(سقط) ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبيّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة) رواه الترمذي وصححه الألباني، وفي رواية أخرى في فقه السيرة صححها الألباني أن بحيرا الراهب سأل أبا طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (ما هذا الغلام منك (ما قرابته منك)؟ قال: ابْني، قال: ما يَنْبَغِي أن يكون أبوه حيّاً! قال: فإنه ابن أَخي، مات أَبُوهُ وأُمه حُبْلَى به، قال صَدَقْتَ، ارجع به إلى بلدك واحْذَرْ عليه يهود).
إقرأ أيضا:وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضِياءُ ولَّى أبــوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لا زِلْتَ في الرحِمِ
وماتت الأم لمّا أنْ أنِسْتَ بها ولم تكن حين ولَّت (ماتت) بالغ الحُلم
ومات جدك من بعد الولوع به فكنتَ من بعدهم في ذروة اليتم
فجاء عمك حِصْناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم
الأجم: (الشدة والكثرة)
النبي صلى الله عليه وسلم واليتيم:
نبينا صلى الله عليه وسلم من أوائل الذين لمسوا آلام اليتيم وأحزانه، واهتم به اهتماماً بالغاً من حيث تربيته ورعايته ومعاملته، وضمان سبل العيش الكريمة له، حتى ينشأ عضواً نافعاً، ولا يشعر بالنقص عن غيره من أفراد المجتمع، فيتحطم ويصبح عضواً هادماً في الحياة، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}(الضحى: 9)، قال ابن كثير: “أي: كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه، وتلطف به”.
وقد قال صلى الله عليه وسلم ـ حاثّاً وآمراً ومُحفزاً على رعاية اليتيم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً) رواه البخاري، قال ابن بطال: “حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك”. ويقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتابه”العرب”: “وقد برهن صلى الله عليه وسلم بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ولكل محتاج إلى المساعدة، كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة حقيقية لليتامى والفقراء وابن السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكَدّ والعناء”.
لقد شاء الله عز وجل واختار لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يولد وينشأ يتيماً، لتتولاه عناية الله وحدها، فالله عز وجل ـ في الحقيقة ـ هو الذي تكفل به صلى الله عليه وسلم وآواه، وأدبه فأحسن تأديبه، وأحاطه بحفظه ورعايته، فأحبه كل من رآه، بدءاً بمراضعه، ومروراً بمن شاركهم في طفولته وشبابه. وصور ومظاهر حفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم منذ طفولته وصغره وشبابه قبل بعثته كثيرة، قال ابن هشام في السيرة النبوية: “فشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه”، وقال الطبري في تفسيره لقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}(الطُّور:48)، “يقول جلّ ثناؤه: فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك”. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، والحديث وإن كان ضعيفا إلا أن معناه صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر في حكمه على الحديث بالغرابة وقال: “ولكن معناه صحيح”، فقد أجمعت الأمة على حفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم منذ ولادته وحتى وفاته، وذلك لأن الله تعالى هو الذي آواه واصطفاه، وحفظه بحفظه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}(الضحى:6)، قال السعدي في تفسيره: “أي: وجدك لا أم لك، ولا أب، بل قد مات أبوه وأمه وهو لا يدبر نفسه، فآواه الله، وكفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده كفله الله عمه أبا طالب، حتى أيده بنصره وبالمؤمنين”.
ذُكِرتَ بِاليُتمِ في القرآن تَكرمةً وَقيمَةُ اللُؤلُؤِ المَكنونِ في اليُتمِ