في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، خرجت قريش بكل ما تقدر عليه من عُدة وعتاد، ورجال ونساء، بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل، لقتال المسلمين، فلما علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك أعلن الجهاد، ووعد المؤمنين بنصر الله وثوابه، وما أعده الله للشهداء، وسار ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه سبعمائة من أصحابه، وعسْكر بهم بجوار جبل أُحُد، ثم جعل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظهر المسلمين إلى جبل أحد، وجعل على الجبل خمسين راميا تحت إمرة عبد الله بن جبير، وقال لهم: ( إن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تبرحوا، وإن رأيتمونا ُنقتل فلا تنصرونا ) .
وقد سُجِّلَت في هذه الغزوة (أُحُد) بطولات رائعة، ومواقف كثيرة في الشجاعة والتضحية للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، ومنها:
موقف أبي دُجانة ـ رضي الله عنه ـ حين قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من يأخذ هذا السيف؟، فبسطوا أيديهم كلٌّ يقول: أنا، أنا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من يأخذهُ بحقه؟، فأحجم (تأخر) القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخذهُ بحقه يا رسول الله، فأخذهُ ففلق (شق) به هام (رؤوس) المشركين ) رواه مسلم .
وفي رواية ابن هشام وابن كثير: ” قال سِمَاك بن خرشة أبو دجانة: ( وما حقه يا رسول الله؟، قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، أي يمشي مشية المتكبر، وحين رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن ).
قال القرطبي: ” يعني بهذا الحق: أن يقاتل بذلك السيف إلى أن يفتح الله على المسلمين أو يموت ” .
وأَبو دجانة هو سماك بن أوس بنِ خرشة صحابي أنصاري من بني ساعدة، كان ممن أسلم مبكراً من الأنصار، واشتهر أبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ ببطولاته في المعارك والغزوات، وكانت له عِصَابَةٌ (ما يُشد به الرأس) حَمْرَاءُ يُعْلَمُ بها عند الحرب، إذا اعتصب بها علم أنّه سيقاتل حتى الموت، وكان الأنصار يسمونها: ” عصابة الموت “.
بدأت معركة أُحُد والتحم الجيشان، واشتد القتال وتعانقت السيوف، واعتصب أبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ بعصابة الموت، وتقدم نحو المشركين بسيفه الذي أخذه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فحصد به رؤوسهم وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
والكيول: هي آخر الصفوف.
وذكر ابن هشام في السيرة النبوية: أن أبا دجانة ـ رضي الله عنه : ـ ” أمعن في صفوف المشركين، وجعل لا يلقى أحَدَاً من المشركين إلا قتله، ورأى ـ رضي الله عنه ـ إنسانا يخمش الناس خمشاً شديداً، قال: فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولْوَل، فإذا هي امرأة، وهي هند بنت عتبة، قال: فأكرمت سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أضرب به امرأة ” .
قال الزبير: ” فقلتُ له كلُّ صنيعِك رأيتُه فأعجبني غيرَ أنك لم تقتلِ المرأةَ، قال: فإنها نادت فلم يُجبْها أحدٌ، فكرهتُ أن أضربَ بسيفِ رسولِ الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ امرأةً لا ناصرَ لها ” رواه البزار .
وفي أثناء القتال والمعركة تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وهو يقول: ” لا نجوتُ إن نجا “، فنازله الحارث بن الصمة ـ رضي الله عنه ـ فضرب على رجله فأقعده وأخذ منه سلاحه، فأسرع عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من المشركين ـ على الحارث بن الصمة فضربه بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، فانقض أبو دجانة ـ البطل ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر المشرك فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه .
وقبل نهاية المعركة وقعت وقعتان تدل على مدى شجاعة وقوة أبي دجانة ـ رضي الله عنه ـ، ووفائه بعهده للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أخذ السيف منه .
أما الوقعة الأولى: حين أقبل عبد اللَّه بن حميد بن زهير يركض بفرسه مُقنَّعاً في الحديد يقول: أنا ابن زهير!، دلوني على محمد، فو اللَّه لأقتلنه أو لأموتن دونه، فقال له أبو دجانة: هَلُمَّ إلى من يقي (يحمي) نفس محمد بنفسه، وضرب رقبة فرسه ثم علاه بالسيف فقتله، ورسول اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر إليه ويقول: ( اللَّهمّ ارض عن أبي خرشة (أبو دجانة)، كما أنا عنه راض ) .
والثانية: قال ابن كثير في البداية والنهاية: ” قال كعب بن مالك: وخرج رجل من المشركين نحو المسلمين وهو يقول: استوسقوا (اجْتَمعُوا) كما استوسقت جزر الغنم (مَا يذبح من الشَّاء)، وإذا رجل من المسلمين قائم ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدّر المسلم والكافر بنظري، فإذا الكافر أفضلهما عدّة وهيئة، قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف، فبلغت وِرْكيه وانفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟، أنا أبو دجانة ” .
أبو دجانة يحمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجسده :
لما ترك الرماة أماكنهم التي أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها، وخالفوا أمره حين قال لهم: ( إن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تبرحوا، وإن رأيتمونا ُنقتل فلا تنصرونا )، انتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركا ـ فرصة خلو الجبل من الرماة ونزول أكثرهم، فالتف ورجع هو ومن معه من جنده، فقتلوا مَنْ بَقِيَ من الرماة وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف يقتلونهم، حتى وصلوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشجوه في وجهه، وفي هذه اللحظات العصيبة ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه نفر من أصحابه، يدافعون عنه بأجسادهم وأرواحهم، في صور رائعة من الحب والتضحية، وكان منهم أبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ، الذي آثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نفسه، وأحبه أكثر من حبه لنفسه، وحماه – صلى الله عليه وسلم ـ بجسده، والسهام تقع عليه ولا يتحرك .
قال ابن حجر: ” وذكر الواقدي في المغازي أنه ثبت يوم أحد من المهاجرين سبعة: أبو بكر، وعليّ، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، ومن الأنصار: أبو دجانة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير ” ، وقال ابن هشام: ” ومنهم أبو دجانة، فقد ترّس بنفسه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحنى ظهره عليه، والنبل يقع فيه حتى كثرت به الجراح ” .
فوائد :
ـ أسلوب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عرض ذلك السيف، من خلال ندائه على أصحابه، يهدف إلى بث روح المنافسة الكريمة بينهم، واستنهاض هممهم وإلهاب عواطفهم، وإثارة حماسهم، وكشف أصحاب الكفاءات والبطولات لوضعهم في الأماكن المناسبة لهم .
قال الإمام يحيى بـن هبيرة الشيباني في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من يأخذ هذا السيف بحقه): ” في هذا الحديث من الفقه استحباب توصل الإمام إلى كل ما يشد به عزائم المجاهدين، ويحمي به أنوفهم للحق .. وفيه أيضاً ” أن المستحب للإمام أن يختار أجود السلاح لأجود الرجال ” .
وقال الشيخ ابن عثيمين: ” ( من يأخذ مني هذا السيف؟) كلهم قال: نأخذه، رفعوا أيديهم وبسطوها، يقولون: أنا أنا، فقال: ( فمن يأخذه بحقه؟) ، فأحجم القوم، لأنهم يعلمون ما حقه، يخشون أن حقه يكون كبيراً جداً لا يستطيعون القيام به، ويخشون أيضاً أن يعجزوا عن القيام به، فيكونون قد أخذوا هذا السيف على العهد من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم لا يوفون به، ولكن الله وفَّق أبا دجانة ـ رضي الله عنه ـ فقال: أنا آخذه بحقه، فأخذه بحقه، وهو أن يضرب به حتى ينكسر، أخذه بحقه ـ رضي الله عنه ـ وقاتل به وفلق به هام المشركين ـ رضي الله عنه ـ .. وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يبادر بالخير، وألا يتأخر، وأن يستعين بالله ـ عز وجل ـ، وهو إذا استعان بالله وأحسن به الظن أعانه الله .. وفي هذا دليل ـ أيضاً ـ على حسن رعاية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته، لأنه لم يخص بالسيف أحداً من الناس، ولكنه جعل الأمر لعموم الناس، وهكذا ينبغي للإنسان الذي استرعاه الله رعية، ألا يحابي أحداً، وألا يتصرف تصرفاً يظن أنه محاب فيه، لأنه إذا حابى أحداً، أو تصرف تصرفاً يظن أنه حابى فيه، حصل من القوم فرقة، وهذا يؤثر على الجماعة ” .
ـ في تردد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في أخذ السيف من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما علموا أن ذلك الأخذ مشروط بالوفاء بحقه، دلالة على تمتعهم بخلق الوفاء بالعهد والأمانة، فهم لا يعطون عهداً إلا إذا كانوا واثقين من الوفاء به، وهذا يُظهر أثر تربية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفوس أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ .
ـ كل ما يدل على التكبر أو الغرور ممنوع شرعاً، ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها, بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مشية أبي دجانة: (إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع )، فالفخر والخيلاء في الحرب ليسا من النوع المذموم, وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال ) صححه الألباني .
قال ابن القيم: ” وقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: ( إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع ) رواه الطبراني، فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخُلق يجري في أحسن مواضعه، وفي الحديث الآخر وأظنه في المسند: ( إن من الخيلاء ما يحبها الله، ومنها ما يبغضها، الله فالخيلاء التي يحبها الله: اختيال الرجل في الحرب )، فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية ” .
وقال المناوي في فيض القدير: ” التبختر مِشية يبغضها الله إلا بين الصفين (الحرب)، فإذا علمت أن للمواطن أحكاماً فافعل بمقتضاها تكن حكيماً “.
من الأقوال المشهورة لأبي دجانة ـ رضي الله عنه ـ ما ذكره ابن سعد في الطبقات عن زيد بن أسلم قال: ” دُخل على أبي دجانة ـ رضي الله عنه ـ وهو مريض – وكان وجهه يتهلل -، فقيل له: ما لوجهك يتهلل، فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً “.
في حياة الصحابة ملامح من نوادر الشجاعة والفروسية والبطولة، وهذه الملامح تلتصق بشخصية صاحبها حيث يُعرف بها، وتظل مذكورة في كتب السيرة والتاريخ، وأبو دجانة ـ رضي الله عنه ـ واحد من أولئك الأبطال، الذين عُرِفوا بالشجاعة واشتُهِرَ بعصابته الحمراء التي كان يربطها على رأسه، وكان الأنصار يسمونها: ” عصابة الموت “.