بسم الله الرحمن الرحيم
من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، من شمائله العظيمة مقابلته للإحسان بأجمل الإحسان .
عن أبي قتادة أنه قال :
وفَد وفدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه ، فقال له أصحابه : يا رسول الله نكفيك ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم
فأحياناً عندما تقدم خدمات بنفسك لإنسان له فضلٌ عليك ، فهذا الشيء رائع جداً ، زرت إنساناً في بلد وبالغ في إكرامك ، فلما جاء ينبغي أن يراك في المطار ، ينبغي أن تأخذه إلى بيتك، ينبغي أن تحمل أمتعته بنفسك ، هذا من كرم الضيافة ، ومن حسن الاستقبال ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخدم وفد النجاشي بنفسه ، فلما قال أصحابه: يا رسول الله نحن نكفيك ـ أي نكفيك القيام بضيافتهم ـ قال عليه الصلاة والسلام
إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم
إخواننا الكرام … وطِّن نفسك على أن إنساناً ما إذا قدم لك خدمةً ينبغي أن تراه ديناً عليك إلى الأبد وألا تنسى فضله ما حييت ، ووطن نفسك أيضاً على أنك إذا أسديت إلى إنسانٍ معروفاً يجب أن تنساه ، تحتاج إلى ذاكرتين ، ذاكرةً نسَّاءة ، وذاكرة ذاكرة ، فأعمالك الطيبة يجب أن تنساها ، لكنها عند الله محفوظة و لا تخف ، محفوظة وسوف يضاعفها لك أضعافاً كثيرة ، أما إذا أُسدي إليك معروفٌ ينبغي ألا تنساه أبداً .
ورد عن عمر بن أخطل الأنصاري رضي الله عنه قال :
استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي طلب ماءً ليشرب منه ـ فأتيته بقدحٍ فيه ماء كانت فيه شعرةٌ فأخذتها ـ أي أزلتها من القدح ، ما هذا المعروف ؟ قدم له كأس ماء فوجد فيه شعرة ، أزاحها من القدح ـ
فقال عليه الصلاة والسلام مقابلاً لصنعه الجميل :
اللهم جَمِّله
قال الرواي : فرأيت عُمَراً وهو ابن تسعين سنة وليس في لحيته شعرةٌ بيضاء ، سحب شعرةً من كأس ماءٍ قدَّمها للنبي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
اللهم جَمِّله
أحياناً تقدم خدمات تلو الخدمات ، تقدم معونات تلو المعونات ، ثم يُجحد هذا كله ، ويُنسى ،
كما قال الشاعر :
أعلمه الرماية كل يومٍ***فلما اشتد ساعده رماني
وقد علمته نظم القوافي***فلما قال قافيةً هجانـي
أعلِّمه الفتوة كل حيـن***فلما طرَّ شاربه جفاني
هذا من اللؤم ، و المؤمن لا ينسى الجميل الذي يسدى إليه ، لا ينساه طوال العمر .
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، فسقطت على لحيته ريشة ، فابتدر أبو أيوب فأخذها
إقرأ أيضا:شمائل النبي عليه الصلاة والسلامفقال عليه الصلاة والسلام :
نزع الله عنك ما تكره
لم ينس إنساناً التقط ريشة ،
الموضوع ريشة وشعرة فما قولك فيما فوق ذلك ؟ اعتنيت بإنسان ، و أمضيت معه الساعات الطويلة ، استقبلته في بيتك أياماً عديدة ، قدمت له مساعدة ، خدمته ، أكرمته ، هذا المعروف أينسى؟
البر لا يبلى ، والذنب لا ينسى ، والديان لا يموت ، اعمل ما شئت كما تدين تدان
روى مسلمٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ :
كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ـ أي ماء وضوئه ـ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ
أي اطلب ما تحتاجه في مقابلة خدمتك لي ، ماذا رأى النبي خدمة هذا الصحابي له ؟ رآها ضريبةً عليه أن يؤديها ، أو ديناً عليه أن يفيه ؟ فإذا كان إنسان واحد بالأرض يُخدم بلا مقابل ، فهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك رأى خدمته ديناً يجب أن يؤدى ، وكلٌّ منا إنسان عادي ، فإذا إنسان خدمك ، عاونك ، يسَّر لك عملك ، بذل وقتاً من أجلك ، قدم لك هدية ، قدم لك حاجة ، اعتنى بابنك ، يسَّر لك أمرك ، ألا ينبغي أن تكافئه على صنيعه هذا ؟
سَلْ أي اطلب ما تحتاجه في مقابلة خدمتك لي ـ فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال عليه الصلاة والسلام: أو غير ذلك ـ
أحياناً تخدم إنساناً خدمة يسلفك مبلغاً من المال كبيراً ، يقول لك الشخص : ادع لي، أي الله يوفقك ، مجرد كلمة ، مقابل أن سلفك مالاً فلا تقتصر على الدعاء له فقط ، بل قدم له خدمة أيضاً ، أول كلمة : الله يجزيك الخير ، الله يوفقك ، هل هذا هو الشيء المناسب ؟ لا ترضى أن تدعو له فقط ، و لكن ما دام قد قدم لك شيئاً ثميناً ، فيجب عليك أن تقدم له شيئاً ثميناً . هل عندكم دليل على ذلك في السنة ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له
فإن لم تجدوا فادعوا له هذا إذا لم تقدر ، أما إذا قدرت : من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه
فإن لم تجدوا فادعوا له ، أشخاص كثيرون يقول أحدهم لك : لا أريد شيئاً ادعُ لي فقط . هذا كلام طيِّب لكن لا تقبل أن تكتفي بالدعاء له ،
نعود للحديث السابق فقال النبي : أو غير ذلك ـ أي اسأل عن غير ذلك ـ فقال ربيعة هو ذاك يا رسول الله، لا أسألك غيره ، عندئذٍ قال عليه الصلاة والسلام فأعني على نفسك بكثرة السجود
أذكر لكم مثلاً يقرِّب هذا المعنى ، ملك له ابن قال ابنه : أريد سيارة ، فأعطاها له ، أريد يختًا ، هذا يخت ، طائرة خاصة ، هذه طائرة ، أريد قصراً ، هذا قصر . ملك عنده ويعطي ، أما إذا طلب منه : ضعني رئيس جامعة ، فهذه لا ، فهذه بحسب اجتهادك ، هذا الطلب يحتاج جهداً منك ، ائتني بدكتوراه لأجعلك رئيس هذه الجامعة ، أيُّ طلب مادي يقدمه له أبوه ، لكن ربيعة طلب مرافقته في الجنة ، فماذا قال له النبي : أهِّل نفسك ، أعني على ذلك بكثرة السجود لله عزَّ وجل
فالإنسان لا يرقى عند الله إلا بجهدٍ حقيقي
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ :
كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ أَقُولُ لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةٌ – من شدة محبته ، من شدة تعلُّقه بالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد النبي أن يصرفه يبقى على عتبة باب بيت النبي ، يتسمع ماذا يقول النبي في الليل ، من صلوات ، وتهجُّد ، ودعاء – فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حَتَّى أَمَلَّ فَأَرْجِعَ أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي – والنبي يتهجد ويدعو ، ويسبح ـ ويستغفر ـ فَأَرْقُدَ قَالَ فَقَالَ لِي يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ قَالَ فَقُلْتُ أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ قَالَ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي قَالَ فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ قَالَ فَجِئْتُ فَقَالَ مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ فَيُعْتِقَنِي مِنْ النَّارِ قَالَ فَقَالَ مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ قَالَ فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ سَلْنِي أُعْطِكَ وَكُنْتَ مِنْ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي قَالَ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ لِي إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ
[أحمد]
المقامات العُليا عند الله لا تنال بالوسائط ؛ بل تنال بالأعمال ، تنال بالجهود ، تنال بالجهاد، تنال بالعزائم ، تنال بالإنفاق .
والحمد الله رب العالمين
منقول عن: السيرة – شمائل الرسول 1995 – الدرس (10-32) : صفاته : ملاطفته للصبيان ومؤانسته لهم
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1994-12-12