من الحديبية إلى تبوك

فتح مكة وهدم: العُزَّى، وسُواع، ومَناة

في رمضان من العام الثامن للهجرة النبوية الشريفة دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، فتوجه إلى المسجد الحرام، واستلم الحجر الأسود، وطاف بالكعبة التي كان حولها ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود، روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكةَ وحول البيتِ ستون وثلاثمائة نُصُبٍ (صنم)، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء:81)، {جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ:49) رواه البخاري

وبَعْدَ أن طهر النبي صلى الله عليه وسلم البيت الحرام من الأوثان، بدأ في هدم جميع الأصنام مِنْ حوله، ومن ثم كانت سرايا النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة التي أرسلها ـبعد فتح مكة مباشرةـ لهدم هذه الأصنام وتطهير الجزيرة العربية من الشرك ومظاهره، ومن هذه السرايا: سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العُزَّى، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع، وسرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه الى مناة، فأدى كل منهم مهمته بنجاح.

سرية خالد بن الوليد إلى العُزَّى

العُزَّى: أعظم الأصنام عند قريش وبني كنانة، وكان سدنتها وحجابها (خادموها) بنو شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وكانت العرب وقريش تسمى بها: (عبد العزى). وبعد الفتح الأعظم لمكة المكرمة، ولخمس ليالٍ بقين من شهر رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة النبوية الشريفة وجه النبي صلى الله عليه وسلم سرية من ثلاثين فارساً بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى الصنم الأعظم منزلة ومكانة عند قريش وسائر العرب (العُزَّى)، وذلك لإزالته من على الأرض بعد أن أُزيل من القلوب، فلما سمع سادن (خادم) العزى بمسير خالد رضي الله عنه إليها، علّق عليها سيفه والتجأ الى الجبل الذي هي فيه وهو يقول:

إقرأ أيضا:الخالة بمنزلة الأم

            أيَّا عُزَّ شُدّي شدَّة لا شَوَى (تبقي)      لها على خالدٍ، ألْقي القناعَ وشَمّري
            أيا عُزَّ إنْ لم تقتلي المرءَ خالداً             فبوئي  بإثمٍ عاجل أو تنصّرَي

فلما انتهى إليها خالد رضي الله عنه هدمها وهو يقول:

              يا عُزّ كفرانك لا سبحانك                       إني رأيتُ الله قد أهانك

ويحدثنا أبو الطفيل عن قصة هدم العُزى فيقول: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات (شجرات)، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره…فقال: (ارجع فإنك لم تصنع شيئاً). فرجع خالد فلما أبصرت به السدنة -وهم حجبتها- أمعنوا في الجبل، وهم يقولون: يا عُزى، فأتاها خالد فإذا هي امرأة عريانة ناشرة شعرها، تحثو (تلقي) التراب على رأسها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (تلك العزى) رواه النسائي والبيهقي

إقرأ أيضا:الفتح في صلح الحديبية

عاد خالد بن الوليد رضي الله عنه الى النبي صلّى الله عليه وسلم بعد انتهاء مهمته فأخبره بما فعله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ابن حجر في فتح الباري: (تلك العُزّى، ولا عُزّى بعدها للعرب، أما إنها لن تُعبد بعد اليوم).

سرية عمرو بن العاص إلى سُواع

قال الله تعالى مخبراً عن قوم نوح: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح:23)، وسواع المذكور ضمن هذه الأصنام: هو اسم صنم كان لقوم نوح عليه السلام, ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية، وظل هذا الوثن منصوباً تعبده هذيل وتعظمه، حتى إنهم كانوا يحجون إليه، حتى فُتِحت مكة، ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجاً، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـفي رمضان أيضاً من السنة الثامنة للهجرةـ سرية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه لتحطيم سواع، والذي يحدثنا عن مهمته فيقول ـكما ذكر ابن سعد في الطبقاتـ: (فانتهيت إليه (سواع) وعنده السادن (الخادم)، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تُمْنَع، قلتُ: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك! هل يسمع أو يبصر؟! قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا شيئاً, ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله).

إقرأ أيضا:تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله

سرية سعد بن زيد الأشهلي الى مَناة

(مَناة): أقدم الأصنام كلها، وكانت العرب تُسمي بعض أبنائها: (عبد مناة)، وكان منصوباً على ساحل البحر الأحمر بقديد بين المدينة ومكة، وجميع العرب كانت تعظمه وتذبح حوله، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من تلك المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج. 

ذكر السيوطي في “الخصائص الكبرى”، وابن سعد في “الطبقات” أنه في ست بقين من شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة النبوية: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكانت بالمشلّل (جبل يهبط منه الى قديد من ناحية البحر الأحمر) للأوس والخزرج وغسّان. فلما كان يوم الفتح بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي لهدمها فخرج في عشرين فارساً حتى انتهى إليها وعليها سادن (خادم)، فقال السّادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك، ويضربها سعد بن زيد الأشهلي فيقتلها، ويقبل إلى الصنم معه أصحابه فهدموه، ولم يجد في خزانتها شيئاً، وانصرف راجعاً إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم”.

من الملاحظ في هذه السرايا التي وُجهت لهدم هذه الأصنام، أن مناة كانت من نصيب سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه، ولم تكن من نصيب خالد أو عمرو رضي الله عنهما، وسبب ذلك أن مناة هي المقدسة عند الأوس والخزرج، فهدمها واحد من الأوس والخزرج، كما كانت العزى من مقدسات قريش، فكان هدمها على يد خالد رضي الله عنه، وفي ذلك حكمة نبوية، أن يُحَطَّم الصنم ممن كانوا يولونه القداسة والعبادة أكثر من غيرهم، وقد ظهر هذا المعنى كذلك في هدم اللات ـصنم ثقيفـ فيما بعد على يد المغيرة بن شعبة الثقفي وأبي سفيان بن حرب. وبذلك أزيلت أكبر الأصنام الموجودة في مكة وما حولها، والتي أشار الله عز جل إليه في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (النجم:20-19)، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح:23).

فائدة:

مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد وسد الذرائع المفضية إلى الشرك بالله كانت واضحةً وحاسمة؛ لأن الشرك إذا حدث وسُكِت عنه وعن الأسباب التي ربما تؤدي إليه، لا يلبث أن يصير في حكم الواقع ومن المسلَّمات، وقد دلت الأدلة الشرعية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته على وجوب هدم الأصنام، ومن ذلك ما رواه عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وبأي شيء ‏أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أرسلني بِصِلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوحَد الله لا يُشْرك ‏به شيء) رواه مسلم.

وقد ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التوحيد، وكان يصحح ما يظهر عندهم من انحراف عنه في القول أو السلوك أو الاعتقاد، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء، فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم) رواه الترمذي

ولما سألت ثقيف النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم صنمهم اللات لا يهدمها، وألحوا عليه في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين، أبَى، فما برحوا يسألونه ويأبى عليهم، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يتركها، فبعث صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما يهدمانها، فهدماها في مشهد عظيم.

لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التوحيد الخالص لله وعدم الإشراك به شيئاً، وكان ذلك من الأولويات التي اهتم بها في تربيته لصحابته الكرام، فقد كان همَّه الأول تصحيح معتقَداتهم الوافدة من بيئة جاهلية كانت تُعبد فيها الأصنام، وتُقدّم لها النذور والقربات، وكان في فتح مكة وتحطيم الأصنام فيها ومِن حولها إزالة لمعالم الشرك ومظاهره، ونهاية لعهد الجاهلية والأصنام، وإقامة لعصر النور والتوحيد والإسلام..ومن خلال دراستنا للسيرة النبوية المطهرة نرى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالعقيدة ـمع الصغار والكبارـ، ومن ثم فقد بدأ دعوته بقوله: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) رواه أحمد.

السابق
فشرِبَ حتى رَضِيت
التالي
فوائد من كتاب النبي إلى مقوقس مصر