بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة المنورة، بدء صلى الله عليه وسلم برصد تحركات قريش، حيث كانت العدو الأول لدعوة الإسلام، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمام المبادرة، وسير الغزوات والسرايا، التي استمرت من رمضان في السنة الأولى من الهجرة إلى رمضان في السنة الثانية، وكلها حدثت قبل غزوة بدر، وكان منها: سرية نخلة، والتي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله عنه في رجب من السنة الثانية للهجرة.
و(نخلة) موضع بين مكة والطائف، تقع على بُعد حوالي (480) كيلو متر من المدينة المنوَّرة، وهي مسافة طويلة لسرية صغيرة، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السرية أمراً لم يفعله في سرية أخرى، فقد دفع إلى أمير السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه بكتاب مغلق، وأمره أن يسير بهذا الكتاب مدة يومين ثم يفتحه بعد ذلك.
يروي ابن كثير في “البداية والنهاية”، وابن هشام في “السيرة النبوية” أحداث هذه السرية فيقول: “فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: (إذا نظرتَ في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة)، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ـصلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عُمَّار -أي: يريدون أداء العمرة- لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم ابن كيسان، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: “إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه”.
إقرأ أيضا:من نتائج الهجرة قيام الدولة الإسلاميةقال ابن إسحاق: “فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، فوقَّف العير والأسيرين، وأبَى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا في شعبان، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَر} (البقرة:217). فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا – يعنى سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان-، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم)، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم”.
إقرأ أيضا:اليهود ومؤامراتهم في المدينةلقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه ما فعلوه من قتال في الأشهر الحرم، وقال: (ما أَمَرْتُكُمْ بِقتالٍ في الشهر الحرام)، ولم يكتفِ بذلك، بل أوقف التصرف في القافلة والأسيرين إلى أن يأتي وحيٌ يرشده إلى الصواب في هذه القضية، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة:217) تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة نعم!، ولكن الصد عن سبيل الله، والكفر به، واضطهاد الضعفاء، وإخراجهم من بيوتهم بغير حق هو أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل.
قال السعدي في تفسيره: “الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين:إنه لم يُنسخ، لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة؛ لعموم الأمر بالقتال مطلقاً، ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها، تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم، كما يجوز في البلد الحرام، ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش، وقتلهم عمرو بن الحضرمي، وأخذهم أموالهم، وكان ذلك -على ما قيل- في شهر رجب، عيَّرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم، وكانوا في تعييرهم ظالمين، إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين، قال تعالى في بيان ما فيهم: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله، وفتنتهم من آمن به، وسعيهم في ردهم عن دينهم، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام، والبلد الحرام، الذي هو بمجرده كافٍ في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟!، {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي: أهل المسجد الحرام، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم أحق به من المشركين، وهم عُمَّاره على الحقيقة، فأخرجوهم {مِنْهُ} ولم يمكنوهم من الوصول إليه، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} في الشهر الحرام، فكيف وقد اجتمعت فيهم؟!، فعُلِم أنهم فسقة ظلمة، في تعييرهم المؤمنين”.
إقرأ أيضا:من أحداث السنة الثانية من الهجرةوسرية (نخلة على صغرها)، وقلة عدد المسلمين فيها ـقيل: ثمانية، وقيل: اثنا عشرـ، فيها من الدروس الكثير، نذكر منها:
السمع والطاعة
ظهر في سرية (نخلة) بوضوح السمع والطاعة من الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله عنه كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، ففعل رضي الله عنه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فتح الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة) فقال: “سَمْعًا وَطَاعَةً”، فالسمع والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم هو ما بايع عليه الصحابة رضوان الله عليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ) رواه البخاري.
الشورى
وذلك من قول عبد الله بن جحش رضي الله عنه لأصحابه: “قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشاً، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه”.
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على أصحابه
أكدت أحداث هذه السرية ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حكمة وحسن تدبير، وحرص على جنده، فقد أخذ القافلة كغنيمة، ورفض أن يردها إلى قريش، ثم هو في الوقت نفسه لم يتشدد في أمر الأسيرين، بل قبل فيهما الفداء بالمال، وقرر صلى الله عليه وسلم أن لا يفدي الأسيرين إلا بعد عودة الصحابيين سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما إلى المدينة المنورة؛ وذلك مخافة أن يكون كفار مكة قد أمسكوا بهما وأسروهما، فلما عاد الصحابيان أذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى، بل وأعطى دية المقتول لأهله.
الرحمة النبوية بالأسرى
بعد طول العناء والتعذيب من مشركي مكة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقع منهم أسيران في أيدي المسلمين، إلا أن ذلك لم يكن دافعاً للنبي صلى الله عليه وسلم للانتقام، بل كان منه الإكرام والصفح عنهما، مع أن هذا العفو كان من الممكن أن يكون سبباً في طمع المشركين فيه، إلا أنها سياسة الرحمة النبوية مع الأسرى، وقد ازداد هذا المعنى وضوحاً ورسوخاً عند تعامله صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر بعد أقل من شهرين من سرية نخلة، وهذا الموقف له دلالات كبيرة، حيث إنه وضح من البداية منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسرى، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأُسَارَى خيرا) رواه الطبراني. وفي ذلك دلالة على أن السرايا والغزوات في سيرته صلى الله عليه وسلم هي حرب تُعلم الناسَ أن الخلق الكريم يلازمها، وأن الفضيلة تظلها في كل مراحلها، ولا يعرف تاريخ الإنسانية محارباً كان رفيقا بأسراه كنبينا صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسرى: “كان يَمُنّ على بعضهم (يطلق سراحهم بلا فداء)، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسارى المسلمين، فعل ذلك كلّه بحسب المصلحة”.
لقد كانت سرية (نخلة مناورة) حية لاكتساب المهارة القتالية، ورفعت ـوغيرها من السرايا والغزواتـ الروح المعنوية للمسلمين، قبل المعارك الكبيرة القادمة. وفي خضم أحداثها، نزلت الآيات القرآنية للرد على قريش التي شنت حرباً إعلامية ونفسية على المسلمين بقولها: “قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال”، فجاء الرد الرباني قاطعاً لألسنة المشركين، الذين يتخذون الحرمات ستاراً لجرائمهم وكفرهم، موضحاً لهم أن الكفر بالله، والصد عن سبيله أكبر وأشد من القتال في الشهر الحرام، فنزل قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَر} (البقرة:217). قال ابن إسحاق: “قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش -ويقال: بل عبد الله بن جحش قالها- حين قالت قريش: قد أحلَّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه المال، وأسروا فيه الرجال”:
تَعُدّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرّشْدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمْ عَمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ وَكُفْرٌ بِهِ وَاَللهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ
وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللهِ أَهْلَهُ لِئَلّا يُرَى لِلّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ
فَإِنّا وَإِنْ عَيّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ
سَقَيْنَا مِنْ ابْنِ الْحَضْرَمِيّ رِمَاحَنَا بِنَخْلَةَ لَمّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ