قال الله تعالى “… وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ…” (الأنبياء:30) وقد قال المفسرون أن ما تعنيه هذه الآية الكريمة هو أن الماء سبب حياة كل شيء حي في الأرض، وقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون الهام في تركيب مادة الخلية، وهو وحدة البناء في كل كائن حي نباتاً أم حيواناً.
قال تعالى: “وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ…” (الأنعام:99) ولذلك فالماء هو بيئة كثير من المخلوقات والكائنات الحية “وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا…” (النحل:14) أي جعل مياهه صالحة لحياة الأحياء البحرية التي يتغذى عليها الإنسان.
وردت كلمة الماء في القرآن 63 مرة وغالباً ورودها بمعنى النعمة، ولما للماء من أهمية بالغة فقد نبه الله سبحانه وتعالى إلى معرفة هذه النعمة وتأدية شكرها.
ترشيد الماء من وجهة نظر إسلامية
إن قضية ترشيد استعمال المياه قضية هامة جداً نظراً لأن الإسراف فيها يؤدي إلى استنزافها وإهدارها وبالتالي يمثل خطراً على مستقبل الموارد المائية الموجودة. من هنا يجب على المسلم مراعاة عدة أمور في ذلك أهمها:
إقرأ أيضا:الإسلام.. حرر الإنسان وجفف منابع العبودية1-مهمة الإنسان في الخلافة وعمارة الأرض:
فالإنسان مستخلف في الأرض وليس مالكاً لها ولمواردها وإنما هي أرض الله وملكه وبالتالي فالإنسان مسئول أمام الله تعالى عن المحافظة عليها وعلى مواردها وعدم إفسادها والإخلال بها.
قال تعالى: “…هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…” (هود: 61). وعمارة الأرض تتم بالإصلاح والإحياء والابتعاد عن الإفساد و الإهدار .
2-موارد المياه نعمة من نعم الله:
إن الماء من أكبر النعم التي خلقها الله ومن حق هذه النعمة تقديرها حق قدرها ومقابلتها بالشكر حتى يحفظها الله سبحانه من الزوال قال تعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” (إبراهيم:7).
3-موارد المياه أمانة عند الإنسان:
الأمانة تشمل كل من أؤتمن عليه الإنسان من ماديات ومعنويات.. قال تعالى في صفات المؤمنين: “وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” (المؤمنون: 8).
4-موارد المياه من حقوق الله:
فالموارد الطبيعية من حقوق الله وليست حقاً خاصاً لفرد أو فئة وليست لجيل عن جيل آخر بل حق عام للبشرية كافة وجميع الأجيال عامة.
ومن جانب آخر نجد أن ضمان العدالة الاجتماعية هو من المبادئ الأساسية في الدين الإسلامي، ونجد أن معظم الأحاديث في السنة النبوية الشريفة تركز على قضية تحقيق العدالة والمساواة بما في ذلك استخدام المياه والحصول عليها لجميع قطاعات المجتمع، ولا يحق للمسلم أن يسيطر على المياه التي هي زائدة عن حاجته، والإسلام يعطي الإنسان حق الانتفاع بالمياه ولكنه لا يعطيه حقا فرديا مطلقا (الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار) رواه أحمد، ولا يجوز انفراد فئة معينة بالانتفاع بالمياه واحتكارها وعدم توزيعها بعدالة بالمجتمع، أو تلويثها بحيث تكون غير صالحة لغيره.
إقرأ أيضا:المرأة العربية.. مقاتلةٌ في الصفوف الأولى!!!نظرة حضارية طويلة المدى
ونظرة الإسلام إلى الترشيد هي نظرة حضارية طويلة الأمد، وإن ترشيد الاستهلاك والمحافظة على الموارد الطبيعية عموما في الدين الإسلامي هي مبادئ ثابتة ومستقرة وتطبق في جميع الظروف، وليس كردة فعل مؤقتة لأزمة نمر بها، وبعد انتهائها يمكن العودة إلى العادات القديمة من إسراف وهدر.. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ) رواه أحمد وابن ماجة.
وإذا تمعنا في هذه المفاهيم والمبادئ الإسلامية، أو الأخلاقيات الإسلامية في التعامل مع المياه، سنجد بأنها هي نفسها التي بدأ الفكر العالمي المعاصر في التطور والتوجه نحوها في مجال أخلاقيات المياه، سواء كسلوك فردي أو كمبادئ إدارية وتشريعية لإدارة الموارد المائية.
وتكميلاً لهذا الحرص على حسن استعمال الماء، دعا الإسلام إلى آداب سلوكية، من المؤكد أنها تؤثر على الكمية المستهلكة منه، كالنهي عن أن يشرب الإنسان وهو قائم، أو من فم الإناء، فضلاً عن أن يتنفس فيه حتى لا يُعاف؛ مما يبرز مدى العناية بآداب الشرب، كما دعا الإسلام إلى وسائل لتقطير الماء وتحليته وخزْنه في أحواض أو أوان، وكذا كيفية حفظه حين يكون.
إقرأ أيضا:الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (26)قيم إسلامية عظيمة في الحفاظ على الماء:
وإذا كانت مشاكل المياه تنحصر في التلوث والإسراف وسوء الاستخدام، فان هذه قضايا عالجها الإسلام منذ 14 قرنا من الزمان بما قرره من آداب وقواعد وأحكام للمحافظة على الماء وترشيد استهلاكه، فالماء هو مصدر الحياة، والمحافظة عليه تعني المحافظة على الحياة بأشكالها المختلفة.
وقد قرر الإسلام مجموعة من القيم والآداب والأسس والقواعد للمحافظة على الماء وحمايته من التلوث، منها ما يلي:
1-نهى الإسلام عن الإفساد في الأرض، فقال الله تعالى: “… كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (البقرة: 60)، وقال تعالى: “… وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص: 77).
وقال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ…” (الروم: 41)، وقال تعالى في وصف الطغاة: “الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ” (الفجر: 11-12)، ومعلوم أن تلويث الماء بشتى طرق التلوث المختلفة هو إفساد في الأرض لما يترتب عليه من أضرار جسيمة لكل من يستخدم هذا الماء الملوث من البشر إلى جانب بقية الأحياء الحيوانية والنباتية والمائية.
2-أقر الإسلام مبدأ (لا ضرر ولا ضرار)، فكل ما يضر المسلمين في رزقهم ومأكلهم ومشربهم ينهي الإسلام عنه، وتلوث الماء من أكبر أشكال الضرر.
3-حرم الإسلام كل ما يفسد حياة المسلمين، وفقا للقاعدة الفقهية التي تقول (ما أدى إلى الحرام فهو حرام)، والتلوث المائي يتسبب في حالات كثيرة في إزهاق الأرواح وقتل الأحياء ونشر الأوبئة والأمراض، ودرء هذا التلوث واجب.
4-أرسى الإسلام قواعد الطب الوقائي حماية للنفس وحماية للبيئة، ومن هذه القواعد ما يتعلق بالماء، فنهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن التبول في الماء الراكد في قوله – صلى الله عليه وسلم – (لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه) رواه البخاري عن جابر -رضي الله عنه -، ومن المعروف أن هناك أمراضا كثيرة تنتج عن الاستحمام في الماء الراكد الذي سبق التبول فيه مثل الكوليرا والبلهارسيا.
كما نهى – صلى الله عليه وسلم – (أن يُبال في الماء الجاري) رواه الطبراني، وذلك للمحافظة على نظافة الماء من الطفيليات التي تكون مع البول وتؤدى إلى تلوث الماء. ودعا – صلى الله عليه وسلم – أن يتحرى المسلم في قضاء حاجته الأماكن المعزولة حتى تستقر الفضلات الآدمية في مكان سحيق فلا يتلوث بها ماء، ولا يتنجس بها طريق فقال – صلى الله عليه وسلم – (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس) رواه أبو داود عن معاذ بن جبل.
وروي عن ابن عمر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – (نهى أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة، ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جار) رواه الطبراني. فالتبرز أو التبول في الماء من السلوكيات الخاطئة التي يجب البعد عنها، والمعروف أن تصريف مياه المجاري في المياه النقية لا يؤدي إلى تلويثها بالطفيليات والروائح الكريهة فحسب، بل يتسبب في استهلاك الأكسجين الذائب في المياه مما يؤثر على حياة الكائنات التي تعيش فيه، كما أن المواد العضوية الموجودة في مياه المجاري تؤدى إلى ازدهار أنواع عديدة من البكتيريا والطفيليات والكائنات الأولية التي تسبب تلوث الماء.
وعلاوة على ذلك دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى تغطية أواني الماء لحمايته من الملوثات التي قد تنتقل إليه من الهواء أو الحشرات الناقلة للجراثيم والطفيليات كالصراصير والفئران والنمل والبعوض، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (غطوا الإناء و أوكئوا السقاء فان في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء) رواه مسلم، ومعنى (أوكئوا السقاء) أي اربطوا فوهات أواني الماء لحمايتها من التلوث والأوبئة.
بل إن حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على طهارة الماء وسلامته بلغت حدا أكبر من ذلك إذ نهى عن النفخ في الشراب ليحميه من نفس شاربه ورائحة فمه كي لا يتلوث، لأن الشارب الأول قد لا يشرب الماء كله، وقد يحتاج بقيته شخص آخر.
وبالمثل نهى – صلى الله عليه وسلم – عن الشرب من فم السقاء مباشرة، ويرى المفسرون والعلماء أن لذلك سببين: الأول عدم تلوث ماء السقاء برائحة فم الشارب، والثاني حماية الشارب مما قد يكون في السقاء من شيء مختلط بالماء، فإذا وضع الماء في كأس علم ما به.
ولقد التزم المسلمون منذ فجر الإسلام بهذه التعاليم فحرصوا على الماء حرصاً شديداً، كما حرصوا على بقائه نقياً طاهراً حتى يتمكنوا من شربه والتطهر به في صلاتهم وسائر عباداتهم التي تحتاج إلى طهارة، كما حرصوا على توفيره للجميع فلا يحرم منه أحد، وفي مرحلة مبكرة من الإسلام اعتبر الماء ثروة يمكن التصدق بها كالمال، وشجع الرسول – صلى الله عليه وسلم – على ذلك في مناسبات كثيرة أشهرها قصة بئر رومة الذي كان تحت يد يهودي وكان يمنع المسلمين من مائه، فقال – صلى الله عليه وسلم – (من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)، فاشتراها عثمان بن عفان – رضي الله عنه – رواه البخاري.
وتيسير الماء في الإسلام ليس مقصوراً على الإنسان، بل يمتد للحيوان حتى لو كان كلبا ضالا، فقد أخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الرجل الذي سقى كلبا في خفه فغفر الله له.