بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الكرام … مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، اهتمامه صلى الله عليه وسلَّم بشؤؤن الضعفاء.
أُذكِّركم بآيةٍ كريمة ، وهي قوله تعالى :
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)
[سورة الكهف : من آية 28]
إلى مَن ؟ إلى الكبراء ، الأقوياء ، الأغنياء ..
(تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
[سورة الكهف : من آية 28]
معنى ذلك أن الإنسان إذا أحبَّ أن يجلس مع الأقوياء ، مع الأغنياء، مع الكبراء هذا من زينة الحياة الدنيا؛ أما إذا جلس مع الفقراء ، مع المساكين ، مع الضِعاف ، مع البُسطاء ، جلس بينهم ، أحسن إليهم ، استمع إلى شكواهُم ، وجَّههم فهذا من العمل الصالح ، فالجلوس مع الفقراء، والمساكين ، والمتواضعين قربةٌ إلى الله ؛ والجلوس مع الأقوياء ، والأغنياء ، والكبراء ، حظُّ نفسٍ ..
(وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
لذلك فإن الإنسان يرقى عند الله إذا زار أخاه الفقير ، إذا زار أخاه المسكين ، إذا دُعي إلى طعامٍ في مكانٍ بعيد ، والطعام خشنٌ متواضع ، هذا من العمل الصالح ، هذا من العمل الذي ترقى به عند الله ؛ أما إذا دُعيت إلى وليمةً فاخرة عند أناسٍ أقوياء ، أو كبراء هذا من الدنيا ، هنا دنيا ، وهناك آخرة ..
إقرأ أيضا:تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
لهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول :
اللهمَّ احشرني مع المساكين
فكأن المساكين المقصود بهم المفتقرون إلى الله عزَّ وجل ،
فماذا يعنينا من هذا الكلام ؟ أي إذا كان لك أخت ، وزوجها فقير ، تسكن في حي فقير ـ مثلاً ـ ولك أخت ثانية تسكن في حي غني ، أنت كل يوم عند الأخت الثانية ، ابنها مريض ، أو زوجها مسافر فأنت عندها ، لمَ كل هذا الاهتمام ؟ والتي في المخيم يتركها شهراً ، اثنين ، ثلاثة ، أربعة ، و قد ينساها نهائياً ، هذا التصرف من الدنيا .
فالشيء الذي يلفت النظر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يزور الضعفاء ، ويلاطفهم ، ويؤانسهم ، ويجلس معهم ، ويعود مرضاهم ، ويحضر جنائزهم وفي هذا تكريمٌ لهم .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً كَانَت فِي الْمَسْجِدِ تقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَت وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِا فَذَكَرَهُا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا فَعَل ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَالُوا: مَاتَت يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُا فَحَقَرُوا شَأْنَهُا قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا فَأَتَى قَبْرَهُا فَصَلَّى عَلَيْهِا
إقرأ أيضا:مباسطته صلى الله عليه وسلَّم لجلسائه وتوسعه معهم[متفق عليه]
امرأةٌ فقيرةٌ جداً كانت تقُمُّ المسجد ـ تكنس المسجد توفيت ، أصحاب النبي عليهم رضوان الله رأوا أن النبي عليه الصلاة والسلام أعظم وأجل من أن يُبلَّغ خبر موتها ، فلم يبلِّغوه ، فلما تفقَّد حالها بعد أيام قالوا : مَاتَت ، قال: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي ؟
يا رسول الله ما شأنك بها ؟ امرأة فقيرة تقم المسجد وماتت ، لماذا نعلمك ؟ فغضب عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى قبرها ، واستغفر لها ، وقرأ القرآن على قبرها ، هكذا علَّمنا النبي.
الأنبياء شيء ، والطغاة شيءٌ آخر ، الأنبياء شيء ، والملوك شيء آخر .
فعندما تزور الفقير ، تكرمه ، تواسيه ، تستمع إليه ، تؤنسه ، ترفع من قيمته ، معنى هذا أنك من أهل الآخرة ، وضعت مقاييس الدنيا تحت قدمك ، وكرَّمت في الفقير إيمانه ، وكرَّمت في الفقير استقامته ، و كرَّمت في الفقير محبَّته لله عزَّ وجل ، فأن تزوره ، وأن تهتم به ، وأن تعطف عليه ، وأن تحترمه ، وأن تثني عليه ، وأن تؤانسَهُ هذا تكريمٌ لإيمانه ، معنى ذلك أن قيَم الدنيا تحت قدمك ، وقيَم الآخرة ملء سمعك وبصرك .
فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يأتي الضعفاء ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :
كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إِنَّ بَعْضَنَا لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنْ الْعُرْيِ ـ فقر شديد ـ وَقَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا فَنَحْنُ نَسْمَعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِذْ وَقَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدَ فِينَا لِيَعُدَّ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فَكَفَّ الْقَارِئُ فَقَالَ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَحَلَّقَ بِهَا يُومِئُ إِلَيْهِمْ أَنْ تَحَلَّقُوا فَاسْتَدَارَتْ الْحَلْقَةُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي قَالَ فَقَالَ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الصَّعَالِيكِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ
[أبو داود ، وأحمد]
ألم يقل الله عزَّ وجل :
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)
[سورة الكهف : من آية 28]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
.. الحمد لله الذي جعل في أمتي من أصبر نفسي معهم
أي أن هذا الإنسان أتاح لك أن تطيع الله عزَّ وجل .
إخواننا الكرام … هل تصدِّقوني أنك إذا ساعدت إنساناً وقَبِلَ هذه المساعدة ، أنه تفضَّل عليك ؟ لأنك لو أردت أن تعمل صالحاً ولم يقبل أحدٌ أن يأخذ منك شيئاً ، فقد منعك من المعروف، لذلك الصالحون ، الأتقياء ، المؤمنون يرون أن الذي يقبل منهم تفضَّل عليهم ، أي سمح لهم أن يرقوا عند الله .
فقد كان الإنسان في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز يمشي مسافات شاسعة ولا يجد رجلاً يأخذ زكاة ماله ، سيدنا عمر ضاق ذرعاً ، إذْ لم يجد أحداً في عهده من يأخذ زكاة الأموال ، فأعطى أمراً أن توزَّع الزكاة على الغارمين ، الغارمون انتهوا ، أعطى أمراً أن يزوَّج الشباب من بيت مال المسلمين ـ من أموال الزكاة ـ طبعاً لو طبقنا الإسلام لكنا في حال آخر غير هذا الحال ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
… الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم . قال : فجلس عليه الصلاة والسلام وسطنا ، ليعدل نفسه فينا …
أي جلس في الوسط ، والإنسان أحياناً إذا ذهب مع إخوانه فهو للجميع لا لواحدٍ أو لِاثنين، الأكمل أن تكون مع الجميع . أحياناً بجلسة تجد اثنين أو ثلاثة يتكلَّمون بمعزل عن البقية ، هذا مجلس لا يرضي الله عزَّ وجل ، المجلس الذي يرضي الله عزَّ وجل هو الذي يتكلَّم فيه واحد ويستمع الباقون ، أما بعض الأقطاب مع بعضهم يتحادثون والباقون في معزل !! هذا ليس من آداب الإسلام في شيء .
… ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده هكذا ـ أي أشار إليهم ـ فتحلَّقوا حوله ، وبرزت وجوههم له ، فقال: أبشروا يا فقراء بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بخمسين سنة
فالفقر لا يقدح في قيمة الإنسان أبداً ، الذي يقدح في قيمة الإنسان أن يعصي الله عزَّ وجل ، والمجتمع الذي يقيِّم الناس بحجم أموالهم هذا مجتمعٌ فاسد ، وهذا مجتمعٌ هالك ، ينبغي أن يُقيَّم الإنسان بعلمه وبعمله ، وأي مجتمعٍ يقيِّم الإنسان بماله فهو مجتمعٌ مادي في طريقه إلى الهلاك .
وكانت صُفّةُ المسجد النبوي ـ إذا أحدكم زار مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، خلف القبر الشريف يوجد مكان مرتفع ترى منصَّة خلف المحراب كان يجلس بها في عهده فقراء المسلمين ، اسمهم أهل الصُفَّة ، يجلسون في هذا المكان ـ وكانت الصفة في المسجد النبوي مدرسةً للفقراء ، يأوي إليها فقراء الصحابة ممن لا أهل لهم ، فيتدارسون القرآن ، ويتعلَّمون أمور الدين وأحكامه ، ثم يذهبون إلى نواحي البلاد ومختلف الآفاق كي يعلِّموا الناس.
والحمد الله رب العالمين
منقول عن: السيرة – شمائل الرسول 1995 – الدرس (11-32) : زيارته لضعفاء المسلمين عامة ولأهل الصفة خاصة
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1994-12-19