إعداد فريق التحرير
لا شك أن دين الله الحق في كل مكان وكل زمان من لدن آدم وحتى محمد عليهما الصلاة والسلام يدعو إلى السمو الروحي وكبح جماح الرغبة الدنيوية وليس كبتها. فالإنسان كائن وسط بين الجماد والملاك. وله رغبات طينية أرضية، كما أن له ملكات روحية سماوية. ولا يحسن أن يكون الإنسان طيني أرضي محض أو روحي سماوي محض ولا يستطيع ذلك أصلا. وإلا لكان جمادا أو ملاكا. ولكن على الإنسان أن يسلك مسلكا وسطا بين تراب الأرض ونور السماء حتى يؤدي الرسالة التي خلق من أجلها.
ولذلك، راعت الرسالات السماوية المتتابعة لدين الله الحق في كل زمان وكل مكان البعدين الحسي والروحي لدى الإنسان بحيث يرتقي الإنسان إلى أعلى درجات السمو الروحي مع تمكينه من إشباع القدر الكافي من الرغبة الدنيوية لديه حتى يتسنى له السمو الروحي. فالإنسان جسد وروح، ولكل منهما متطلبات ومقتضيات. ولا يصلح أحدهما دون الآخر. فإهمال احتياجات أحدهما يؤثر سلبا على الآخر ويؤدي حتما إلى تعاسة صاحبهما وهو الإنسان.
ولنا أن نقول إن الإفراط في الاهتمام بأحد مكوني الإنسان من روح وجسد على حساب الآخر أو التفريط في العناية بأحدهما على حساب الآخر يعد دليلا على فساد المعتقد والشرعة وطريقة الحياة. فالله تعالى لا يسمح بالانغماس في طينة الأرض بالإفراط في إشباع رغبات الجسد، كما أنه لا يأمر بالارتقاء في مراقي الروح مع التفريط في حق الجسد. ففي القرآن الكريم نقرأ:
إقرأ أيضا:دور أباطرة الرومان في صياغة المسيحية المعاصرةوَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (القصص 77:28)
فباطل هو الدين أو المعتقد الذي يأمر أو يسمح بالإفراط أو التفريط في أحد مكوني الإنسان من جسد وروح على حساب المكون الآخر.
وللأسف، نجد رجال الدين في المسيحية المعاصرة يحدثوننا عن سمو روحي مقرون بكبت شديد للرغبة الدنيوية للإنسان وصولا إلا ما يسمى بالرهبنة أو الترهبن أو الرهبانية على حد وصف القرآن الكريم:
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد 27:57)
ولكن، من العجيب، ووفقا للآية الكريمة، أن هذه الرهبانية ضد طبيعة البشر ولم يردها الله لهم ولم يأمرهم بها، والأدهى من ذلك أن غالبية البشر لا يستطيعون الالتزام بها، فهي خلاف مراد الله في خلقه من الطاعة له مع الجمع بين الطبيعة الطينية والروحية بالسمو الروحي والإشباع المعقول للرغبة.
ولا أدل على بطلان ما ذهبت إليه المسيحية المعاصرة من الرهبانية والتجرد الروحي والكبت الحسي من عجز أكابر أتباعها عن الالتزام بذلك عبر العصور المختلفة بل ومنذ فجر تاريخها. تعالوا لنطلع على تاريخ المسيحية المبكر لنستعرض بعض الأمثلة على العجز عما تدعو إليه المسيحية المعاصرة من السمو الروحي والكبت الحسي.
إقرأ أيضا:تاريخ المسيحية والتحول من التوحيد إلى التثليث الجزء الثالثإنجاب السيدة مريم العذراء للمسيح وهي مخطوبة ليوسف
بادئ ذي بدء، أين السمو الروحي في المسيحية المعاصرة إذا كان الله يصور فيها على أنه أنجب ابنا له من امرأة مخطوبة لإنسان آخر؟ ففي العهد الجديد نقرأ: “أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ”. (متى 18:1)
فإذا كان النظر إلى امرأة الغير واشتهاؤها منهيا عنه في الكتاب المقدس، فكيف يتأتى من الله الإنجاب من زوجة الغير؟ ففي العهد القديم نقرأ: “لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ”. (الخروج 17:20)، (التثنية 21:5)
وفي العهد الجديد نقرأ على لسان السيد المسيح: “قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. (متى 27:5-29)
وإذا كان إتيان المرأة دون زواج يعتبر زنا منهيا عنه وعقوبته القتل، فكيف يتأتى ذلك من الله نفسه؟ فعن النهي عن الزنا في الكتاب المقدس نقرأ: “لاَ تَزْنِ” (خروج 14:20). وعن عقوبة الزنا في الكتاب المقدس نقرأ: “وَإِذَا زَنَى رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةٍ، فَإِذَا زَنَى مَعَ امْرَأَةِ قَرِيبِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ” (لاويين 10:20)
إقرأ أيضا:دور الباباوات الأوائل ومجمع نيقية الأول في صياغة المسيحية المعاصرةالتبرج والسفور والتكشف بالكنائس
أين السمو الروحي في المسيحية المعاصرة وقد ملأ التبرج والسفور والتكشف كنائسها بالرغم من النهي عنه سواء في الكتاب المقدس أو في تعاليم آبائها الأوائل؟ ففي الكتاب المقدس نقرأ: “وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغَطّىً فَتَشِينُ رَأْسَهَا لأَنَّهَا وَالْمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ لاَتَتَغَطَّى فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحاً بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ فَلْتَتَغَطَّ” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورونثوس 5:11-6)