تمهيد
كانت هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى سنة (609هـ = 1212م) إيذانًا باضمحلال دولتهم؛ حيث تسببت هذه المعركة فى سريان الضعف فى كيانات الدولة، بالإضافة إلى اعتلاء عرشها مجموعة من الخلفاء الضعاف، وقيام عدد من الثورات وحركات الانفصال التى حدثت بالدولة.
وقد استغلت القبائل المغربية ضعف الموحدين، وعدم قدرتهم على التصدى لمحاولات الانفصال، فتأسست مجموعة من الدول على أرض «المغرب»، وبسطت نفوذها وسلطانها على المنطقة، وهذه الدول هى:
– دولة «بنى مرين» بالمغرب الأقصى [668 – 869هـ= 1269 – 1465م].
– ثم دولة «بنى وطاس» التى قامت على أنقاض دولة «بنى مرين» بالمغرب الأقصى [869 – 962هـ= 1465 – 1555م].
– دولة «بنى زيان» بالمغرب الأوسط (الجزائر وتلمسان) [637 – 962هـ= 1239 – 1555م].
– «الدولة الحفصية» بإفريقية (تونس) [625 – 981هـ= 1519 – 1573م].
وهكذا فقد المغرب وحدته، وصارت تحكمه تجمعات قبلية فى أنحاء متفرقة.
ينتمى المرينيون إلى قبائل «زناتة»، وهم – على أرجح الآراء- من فرع بربر البتر، الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر سعيًا وراء الماء والكلأ، وبدأ ظهورهم على مسرح الأحداث خلال عهد المرابطين حيث شاركوا فى مجريات الأحداث بزعامة «المخضب بن عسكر» أحد أبناء «بنى مرين»، وكان زعيمًا قويا مرهوب الجانب، ونجح فى السيطرة على جميع «بلاد زناتة» و «بلاد الزاب»، فحاول المرابطون مصانعته، وأرسلوا إليه الهدايا والأموال.
إقرأ أيضا:الدولة الرستميةثم انتقل ولاء المرينيين إلى الموحدين وساعدوهم فى إقامة دولتهم، وتثبيت أقدامهم، وشاركوهم فى معاركهم بالميدان الأندلسى.
ولقد كان ضعف الموحدين سببًا رئيسيا فى انتقال «بنى مرين» من المغربين الأدنى والأوسط إلى «المغرب الأقصى» حيث الخصب والرخاء.
مراحل قيام دولة بنى مرين
أولا: مرحلة تثبيت أقدامهم فى مناطق التلول والأرياف: (592 – 614هـ
كانت هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى سنة (609هـ = 1212م) إيذانًا باضمحلال دولتهم؛ حيث تسببت هذه المعركة فى سريان الضعف فى كيانات الدولة، بالإضافة إلى اعتلاء عرشها مجموعة من الخلفاء الضعاف، وقيام عدد من الثورات وحركات الانفصال التى حدثت بالدولة.
وقد استغلت القبائل المغربية ضعف الموحدين، وعدم قدرتهم على التصدى لمحاولات الانفصال، فتأسست مجموعة من الدول على أرض «المغرب»، وبسطت نفوذها وسلطانها على المنطقة، وهذه الدول هى: – دولة «بنى مرين» بالمغرب الأقصى [668 – 869هـ= 1269 – 1465م].
– ثم دولة «بنى وطاس» التى قامت على أنقاض دولة «بنى مرين» بالمغرب الأقصى [869 – 962هـ= 1465 – 1555م].
– دولة «بنى زيان» بالمغرب الأوسط (الجزائر وتلمسان) [637 – 962هـ= 1239 – 1555م].
– «الدولة الحفصية» بإفريقية (تونس) [625 – 981هـ= 1519 – 1573م]. وهكذا فقد المغرب وحدته، وصارت تحكمه تجمعات قبلية فى أنحاء متفرقة.
إقرأ أيضا:دولة الموحدينينتمى المرينيون إلى قبائل «زناتة»، وهم – على أرجح الآراء- من فرع بربر البتر، الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر سعيًا وراء الماء والكلأ، وبدأ ظهورهم على مسرح الأحداث خلال عهد المرابطين حيث شاركوا فى مجريات الأحداث بزعامة «المخضب بن عسكر» أحد أبناء «بنى مرين»، وكان زعيمًا قويا مرهوب الجانب، ونجح فى السيطرة على جميع «بلاد زناتة» و «بلاد الزاب»، فحاول المرابطون مصانعته، وأرسلوا إليه الهدايا والأموال.
ثم انتقل ولاء المرينيين إلى الموحدين وساعدوهم فى إقامة دولتهم، وتثبيت أقدامهم، وشاركوهم فى معاركهم بالميدان الأندلسى.
ولقد كان ضعف الموحدين سببًا رئيسيا فى انتقال «بنى مرين» من المغربين الأدنى والأوسط إلى «المغرب الأقصى» حيث الخصب والرخاء.
مراحل قيام دولة بنى مرين
أولا: مرحلة تثبيت أقدامهم فى مناطق التلول والأرياف: (592 – 614هـ = 1191 – 1217م).
اتصف الأمير عبدالحق زعيم قبائل بنى مرين بالتقوى والصلاح والشجاعة والعدل والعطف على الفقراء مما كان له أثره على جموع المرينيين الذين التفوا حوله، وجذبوا إليهم عددًا من القبائل المغربية التى انضمت إليهم، وعمدوا إلى التوسع وفرض النفوذ على حساب الموحدين، ودخلوا فى عدة معارك كانت أشهرها معركة «وادى نكور» التى خسرها الموحدون.
وقد حمل «عثمان بن عبدالحق» (614 – 637هـ=1217 – 1239م) راية المرينيين عقب مقتل والده الأمير «عبدالحق»، فواصل حملاته العسكرية، وفرض نفوذه على مساحات واسعة من أرض «المغرب»، ثم دعا شيوخ القبائل واتفق معهم على خلع طاعة الموحدين، والقيام بأمر الدنيا والدين، والنظر فى صلاح المسلمين، فعملوا على تحقيق ذلك حتى عام (625هـ= 1228م)، فقوى شأنهم، وخضعت لهم جميع قبائل «المغرب»، وسيطروا على جميع موانى «المغرب» التى امتدت من «وادى ملوية» إلى «رباط الفتح».
إقرأ أيضا:دولة الأغالبةثانيًا: مرحلة الاستيلاء على المدن الكبرى
وحمل أعباء هذه المرحلة فارس «زناتة» الأمير «أبو يحيى أبو بكر ابن عبدالحق»، الذى كان بطلا شجاعًا، قوى الإرادة، حازم الرأى، فقام بتأمين الجبهة الداخلية للمرينيين، وأخضعها لإشراف مالى وإدارى دقيق، ثم واصل مهاجمة المدن المغربية الكبرى، واستولى على «مكناسة»، و «فاس»، و «سلا»، و «رباط الفتح»، و «سجلماسة»، و «درعة».
ثالثًا: المرحلة الأخيرة للاستيلاء على العاصمة مراكش
هيأ الله لبنى مرين فى هذه المرحلة أن يقوم بقيادتهم الأمير «أبو يوسف يعقوب بن عبدالحق» (656 – 685هـ = 1258 – 1286م)، الذى اعتبرته المصادر سيد «بنى مرين» على الإطلاق، وبدأ عهده بمواجهة بعض المشاكل التى واجهت المرينيين فى هذه الفترة، ودخل فى عدة معارك مع الموحدين تمهيدًا لدخول العاصمة «مراكش».
وقد أعد «أبو يوسف» حملة كبيرة، ثم خرج بها من «فاس» فىشعبان سنة (666هـ=إبريل 1268م)، وعبر بها النهر المجاور لمدينة «فاس»، ثم هاجم كل القوى والقبائل المعاونة للموحدين. ونجح فى إخضاعها والسيطرة عليها، ثم كانت المعركة الأخيرة بين الموحدين والمرينيين فى شهر المحرم سنة (688هـ= يناير 1289م) عند «وادى غفو»، ودارت بين الفريقين معركة قوية، أسفرت عن هزيمة الموحدين، ومقتل «أبى دبوس» خليفتهم، ثم دخل الأمير «أبو يوسف يعقوب» العاصمة «مراكش» معلنًا سقوط «دولة الموحدين»، وقيام «دولة بنى مرين».
استقرار دولة بنى مرين واتساعها
ظلت «دولة بنى مرين» فى اتساعها ودعم استقرارها مدة خمس وسبعين سنة، فى الفترة من سنة (685هـ= 1286م) إلى سنة (759هـ= 1359م)، وحكمها خلال هذه الفترة مجموعة من السلاطين الأقوياء، هم:
1 – أبو يعقوب يوسف بن يعقوب [685 – 706هـ= 1286 – 1306م].
2 – أبو ثابت عامر بن أبى عامر [706 – 708هـ= 1306 – 1308م].
3 – أبو الربيع سليمان بن أبى عامر [708 – 710هـ= 1308 – 1310م].
4 – أبو سعيد عثمان (الثانى) بن يعقوب [710 – 732هـ= 1310 –
1332م].
5 – أبو الحسن على بن عثمان [732 – 749هـ = 1332 – 1348م].
6 – أبو عنان فارس المتوكل بن على [749 – 759هـ= 1348 – 1358م].
وقد اتسمت هذه الفترة بتوسع نفوذ «بنى مرين» بالمغرب و «الأندلس»، على الرغم من الثورات الكثيرة والقلاقل المتتابعة التى واجهتهم.
مرحلة ضعف بنى مرين وسقوط دولتهم [759 – 869هـ= 1358 – 1465م]
كان مقتل السلطان «أبى عنان فارس المتوكل بن على» فى سنة (759هـ= 1358م) إيذانًا بدخول «دولة بنى مرين» فى مرحلة الضعف والانهيار؛ حيث انتقلت السلطة من أيدى «بنى مرين» إلى أيدى الوزراء، فضلا عن فقدان الدولة لنفوذها، وانكماشها داخل حدودها بالمغرب الأقصى، وتعرضها للأزمات الاقتصادية، والأوبئة والكوارث الطبيعة، التى حلَّت بالمغرب الأقصى، مما عجَّل بسقوط الدولة، فى عهد السلطان «عبدالحق بن أبى سعيد»، الذى تمكن الثوار من القبضعليه وقتله فى صبيحة يوم الجمعة (27من رمضان سنة 869هـ= 23 مايو 1465م).
العلاقات الخارجية
تعددت العلاقات الخارجية لدولة «بنى مرين»، وشملت «الأندلس»، و «دول المغرب» المختلفة، وتراوحت علاقتهم ببنى الأحمر بالأندلس بين الود والعداء، وشابها الحذر والترقب، على الرغم من أنهما تحالفا ضد الفرنج وهزموهما فى سنة (676هـ= 1277م) بالأندلس، وانحصرت العلاقات بينهما فى أحايين كثيرة على التمثيل الدبلوماسى وتبادل الرسائل.
وكانت علاقة المرنييين بجيرانهم من «بنى عبد الواد» بالمغرب الأوسط علاقة عدائية لتضارب المصالح بينهما، وكانت فترات السلام بينهما قليلة وقصيرة، لأن «بنى عبدالواد درجوا على نقض ما بينهما من معاهدات، على الرغم من أن المرينيين سعوا إلى كسب ودهم؛ ليتفرغوا للجهاد بالأندلس، واضطر السلطان «أبو يوسف يعقوب بن عبدالحق» إلى مهاجمة «المغرب الأوسط» وإلحاق هزيمة نكراء بجيوش «بنى عبد الواد»، ثم عقد الصلح معهم.
وحاول «بنو عبدالواد» الإغارة على الحدود الشرقية لدولة «بنى مرين» فى سنة (679هـ= 1280م)، فخرج إليهم المرينيون للدفاع عن بلادهم وألحقوا بهم الهزيمة بالقرب من «تلمسان».
وفى سنة (698هـ= 1299م) حاصر السلطان «أبو يعقوب يوسف» مدينة «تلمسان» ودام الحصار مدة سبع سنوات؛ ذاق فيها «بنو عبدالواد» مرارة الحصار، ولم ينقذهم من الهلاك سوى مقتل السلطان «أبى يعقوب» وعودة المرينيين بعدها إلى بلادهم.
ثم دخلت «دولة بنى عبدالواد» فى تبعية «بنى مرين» بعد أن غزاهم السلطان «أبو الحسن على»، واستولى على عاصمتهم «تلمسان» فى سنة (732هـ= 1332م)، ثم استغلت بقايا «بنى عبد الواد» الخلافات التى دبت بالبيت المرينى وعادوا إلى عرش بلادهم فى «تلمسان» سنة (749هـ= 1348م)، ولكنهم عادوا إلى تبعية «بنى مرين» ثانية فى سنة (759هـ= 1358م)، وظلوا على عدائهم لبنى مرين، وحاولوا العودة إلى «المغرب الأوسط» مرتين خلال فترة نفوذالوزراء بدولة المرينيين، كانت الأولى فى سنة (772هـ= 1370م)، والثانية فى سنة (791هـ= 1389م).
بعض مظاهر الحضارة
– نظام الحكم والإدارة
اتخذ «بنو مرين» وزراء تنفيذ حتى سنة (759هـ= 1358م)، وكانت مهمة الوزير – آنذاك- تجهيز الجيوش والكتابة، أو الولاية على إقليم ما لأهميته أو لخطورة أوضاعه، أو القيام بالحجابة على باب السلطان.
ثم تحول الوزراء من منفذين لأوامر السلاطين إلى مسيطرين على مقاليد الحكم والبلاد، وبدأ ذلك من سنة (759هـ= 1358م) واستمر حتى سقوط دولة «بنى مرين».
وكانت هناك طبقة الكُتاب التى أفرد لها السلاطين ديوانًا مستقلا أُطلق عليه «ديوان الإنشاء والعلامة»، وضم هذا الديوان عددًا كبيرًا من أئمة الفصاحة والبيان، منهم: «عبدالرحمن بن خلدون»، و «عبدالمهيمن بن محمد الحضرمى»، و «أبو القاسم بن أبى مدين»، وقد أسند السلاطين إلى كُتابهم بعض المهام الكبيرة – أحيانًا- ليرفعوا من شأن هذه الوظيفة وشأن أصحابها.
وقد عرف البلاط المرينى «الحاجب» باسم «المزوار»، وكان يترأس مجموعة الحرس السلطانى الذين عرفوا باسم «الجنادرة»، وكان يشرف على السجون، وينفذ أوامر السلطان وعقوباته، ويتولى تنظيم الناس لعرض مظالمهم على السلطان.
وقسم المرينيون دولتهم إلى تسعة أقاليم، تُدار بواسطة ولاة يعينهم السلطان بنفسه، ويساعدهم بعض الموظفين الرئيسيين، وهم: «صاحب القضية»، و «صاحب الشرطة» و «القاضى»،و «المحتسب».
وتضمن الجهاز الإدارى لدولة المرينيين عددًا من الدواوين، منها:
«ديوان الإنشاء والعلامة»، و «ديوان العسكر»، و «ديوان الخراج».
واحتفظ «بنو مرين» بأهمية القضاء وجلاله، واختص السلاطين بتعيين «قاضى الجماعة» الذى كان له حق مراقبة صاحب الشرطة والمحتسب، وشارك السلاطين معهم ولاة الأقاليم فى تعيين القضاة العاديين، وجعلوا قاضيًا للعسكر، للفصل فى القضايا الخاصة بالجيش والجنود.
الحياة الاقتصادية
شهدت «الدولة المرينية» رخاءً وازدهارًا فى نواحى الحياة كافة.
وجعل المرينيون كل إقليم من أقاليم دولتهم وحدة اقتصادية مستقلة، وجعلوها جميعًا تحت إشراف الوزير المختص أو صاحب الأشغال، وقد تعددت مصادر الدخل المالى وشملت الزكاة، والخراج، والجزية، والضرائب، والغنائم، والمصادرات، وكذلك تنوعت أوجه الإنفاق وشملت: الرواتب، والعطايا، ونفقات الجيش، والبناء والتعمير.
وقد ازدهرت الزراعة ببلاد «المغرب الأقصى» نظرًا لتوافر أسبابها؛ حيث تمتعت البلاد بعدد من الأنهار، إلى جانب الأمطار التى تسقط على جهات متفرقة، مع تنوع المناخ، فضلا عن خصوبة التربة، واهتمام السلاطين بالزراعة، فأسفر ذلك عن وفرة وتنوع فى المحاصيل مثل: القمح، والفول، والشعير، والزيتون، وقصب السكر، والبقول، وكذلك توافرت الفواكه والخضراوات، ونمت الغابات فى مساحات واسعة، فأمدت البلاد بأنواع الأخشاب المختلفة لصناعة السفن والمنازل وغير ذلك من الأغراض.
وشهدت الصناعة ازدهارًا ورواجًا كبيرًا، وتعددت أغراضها ونشطت مراكزها، خاصة وأن الموحدين تركوا وراءهم صناعة مزدهرة بهذه البلاد، وجاء المرينيون فازدهرت فى عهدهم صناعة عصر الزيتون وصناعة السكر، واهتموا بالصناعات الحربية نظرًا لكثرة حروبهم، ويُروى أنهم كانوا روَّادًا فى استعمال البارود، بل لعلهم – كما يقول «ابن خلدون» – أول من استعمله فى صناعة المدافع التى استخدمت فى قذف الأسوار وتحطيمها.
ولم يهمل «بنو مرين» التجارة، بل حرصوا على توفير الأمن للقوافل واهتموا بالتجارة، وأكثروا من الأسواق المتخصصة، وزادوا من عدد الحوانيت ووفروا الراحة للتجار، وأنشأوا لهم الفنادق مثل: «فندق الشماعين»، الذى كان من أهم مراكز التجميع لكبار التجار.
وقد تعددت طرق التجارة، وأقام المرينيون علاقات تجارية مع كثير من الأقطار، فنشطت التجارة الخارجية، وكان التجار المغاربة يحملونالذهب والصمغ من «السودان» إلى «الأندلس»، وقاموا بتصدير المنسوجات الصوفية والجلدية إلى «أوربا»، واستوردوا الآلات الحديدية والأحواض الرخامية، وكان لميناء «سبتة» وغيره من الموانى دور بارز فى تسهيل عمليتى استيراد هذه البضائع وتصديرها.
الحياة الاجتماعية
تشكل المجتمع المرينى من عدة عناصر جاء البربر فى مقدمتها، وجاءت «قبيلة هنتانة» التى تنتمى إليها الأسرة الحاكمة فى مقدمة القبائل البربرية. ولاشك أن هذه القبيلة التى أسست «الدولة المرينية» قد احتلت مركز الصدارة بالدولة، وتلتها فى المرتبة القبائل الهلالية، ثم القبائل التركية، ثم بقايا الروم والفرنج الذين انضموا إلى الجيش المرينى.
وقد اتسم بلاط المرينيين فى بداية عهدهم بالبداوة، ثم أخذوا بمظاهر الرقى والترف بعد أن استقرت لهم أوضاع البلاد، وثبتت أركانها وتنوعت احتفالات المرينيين، وتعددت بها مظاهر الأبهة والعظمة وكان لاستقبال الوفود وتوديعها احتفال خاص يليق بالدولة، كما كان الاحتفال بعيدى الفطر والأضحى، والمولد النبوى، من أهم ما حرص عليه سلاطين هذه الدولة.
وحظى البناء والتعمير بمرتبة رفيعة لدى المرينيين، واهتموا به اهتمامًا بالغًا، وشيدوا عدة مدن تأتى فى مقدمتها مدينة «فاس الجديدة» أو «الدار البيضاء» التى أنشأها السلطان «يعقوب بن عبدالحق»، فى سنة (674هـ= 1275م)، لتكون عاصمة لبلاده بدلا من العاصمة القديمة «فاس» التى ازدحمت بالناس. كما بنى «يوسف بن يعقوب» مدينة «المنصورة» أثناء حصاره لمدينة «تلمسان» سنة (698هـ= 1299م) واختط بها قصره ومسجدًا، ومساكن للجند والدور والفنادق والبساتين، ثم أُحيطت المدينة بسور كبير.
هكذا بنى المرينيون المساجد الكبيرة بشتى مدن «المغرب الأقصى»، وعنوا بفرشها وتزويدها بالماء اللازم للوضوء، وكان المسجد الجامع الذى بنى بفاس الجديدة سنة (677هـ= 1278م) من أهم هذه المساجد.
وكانت المدارس من أهم المنشآت التى حرص المرينيون على إقامتها، فأقاموا «مدرسة الصفارين» فى عهد السلطان «يعقوب» الذى عين لها المدرسين، وأجرى على طلبتها النفقات اللازمة، وزودها بخزانة للكتب، وبنى السلطان «أبو سعيد» عدة مدارس منها: مدرسة العطارين، ومدرسة المدينة البيضاء، ومدرسة الصهريج.
ولم يغفل المرينيون إنشاء المستشفيات، فأقام السلطان «يعقوب بن عبد الحق» عدة مستشفيات للمرضى والمجانين، ووفر لها الأطباء، وأجرى عليهم المرتبات، كما خصص جزءًا كبيرًا من أموال الجزية لرعاية الجذامى والعميان.
الحياة الفكرية
ورث «بنو مرين» عن المرابطين والموحدين ثروة ثقافية كبيرة، فأسهموا بدورهم فى زيادة هذه الثروة، وأنشئوا المؤسسات العلمية كالمساجد والمدارس، ورحبوا بالعلماء القادمين من «الأندلس» وغيرها؛ وشجعوهم على بذل ما لديهم دفعًا للحركة العلمية بالبلاد.
فاهتم العلماء بتفسير القرآن، وبرع عدد كبير منهم فى هذا العلم أمثال: «محمد بن يوسف بن عمران المزداغى» المتوفى عام (655هـ= 1257م)، و «محمد بن محمد بن على» المعروف بابن البقال المتوفى عام (725هـ= 1325م)، و «محمد بن على العابد الأنصارى» الذى اختصر تفسير الزمخشرى المتوفى عام (762هـ= 1361م).
أما علم الحديث فقد ازدهر باعتباره المصدر الثانى للتشريع، ومن أبرز علمائه: «عبدالمهيمن الحضرمى»، و «محمد بن عبدالرازق الجزولى»، و «ابن رشيد» الذى تُوفى فى سنة (721هـ= 1321م).
وقد تقدم علم الفقه تقدمًا كبيرًا بسبب تشجيع سلاطين «بنى مرين» للفقهاء؛ فكثرت المؤلفات، وظهر كثير من الفقهاء مثل: «محمد بن محمد بن أحمد المقرى» المعروف بالمقرى الكبير المتوفى عام (758هـ= 1357م)، و «أحمد بن قاسم بن عبدالرحمن الجذامى» الذى عُرف بالقباب المتوفى عام (778هـ= 1376م).
وإلى جانب هذه العلوم الدينية ازدهرت علوم اللغة، والنحو والتاريخ، والسير، والرحلات، والجغرافيا، والفلك، والرياضيات، والفلسفةوالمنطق والطب، كما ازدهرت الحركة الأدبية، واشتهر عدد كبير من الشعراء، مثل: «أبى القاسم رضوان البرجى» الذى تولى وظيفة الإنشاء فى عهد «أبى عنان المرينى»، و «لسان الدين بن الخطيب» أشهر الشعراء الأندلسيين الذين عاشوا مدة طويلة بالدولة المرينية، وكذا اشتهر عدد كبير فى فن النثر، منهم: «ابن خلدون» و «ابن مرزوق الخطيب».
وأسهمت المكتبات إسهامًا بارزًا فى تنشيط الحركة الفكرية، وكان السلطان «أبو عنان المرينى» قد أفرد دارًا للكتب وزوَّدها بالكتب فى شتى مجالات العلوم والمعرفة، واستخدم بها الأمناء لحفظ الكتب وترتيبها وتصنيفها، وكذا لاستقبال الزائرين.
بنو وطاس بالمغرب الأقصى
[869 – 962هـ= 1465 – 1555م]:
تمهيد:
«بنو وطاس» فخذ من قبيلة «بنى مرين»، ولكنهم ليسوا من فرع الأسرة المرينية الحاكمة، وقد قامت علاقة حذرة بين أسرتى «بنى وطاس» و «بنى مرين»، ثم تعدى «بنو وطاس» هذا الحذر، واتخذوا موقفًا عدائيا من دولة «بنى مرين» منذ قيامها، وساندوا الموحدين فى صراعهم معهم، ومن ثم عمد المرينيون- بعد قيام دولتهم واستقرار الأوضاع لهم – إلى إحكام قبضتهم على حصن «تازوطا» الذى كان مقر «بنى وطاس» فى ذلك العهد، ولكن الوطاسيين قاموا بثورة فى سنة (691هـ= 1292م) للاحتفاظ بنفوذهم فى هذا الحصن، وامتدت ثورتهم فشملت منطقة الريف، ثم طردوا الوالى المرينى وحاشيته، وسيطروا على الحصن، مما دفع السلطان «يوسف بن يعقوب المرينى» إلى تجهيز جيش كبير، وجعل عليه «عمر بن المسعود بن خرباش» أحد قادته المخلصين، وأمره بالتوجه إلى حصن «تازوطا»، ثم خرج السلطان بنفسه على رأس جيش آخر، وحاصر الجيشان الحصن مدة عشرة أشهر، وتمكن «عمر» و «عامر» ابنا «يحيى بن الوزير الوطاسى» زعيما الوطاسيين من الفرار بأموالهما إلى «تلمسان»، ودخل السلطان الحصن، وأنزل العقاب بالوطاسيين ثم عاد إلى عاصمته «فاس» فى آخر جمادى الأولى سنة (692هـ= أبريل1693م).
وقد تآمر «زيان بن عمر الوطاسى» مع الأمير «أبى عبدالرحمن المرينى» ضد والده السلطان «أبى الحسن»، فى محاولة للاستيلاء على السلطة، ولكن محاولتهما باءت بالفشل، وسُجن الأمير، وفر «الوطاسى» إلى «تونس».
وعلى الرغم من كل ما سبق فإن الوطاسيين نالوا حظا وافرًا من المراكز العامة بالدولة المرينية، وتغلغل نفوذهم داخل مراكز الحكم المدنى، وكذا العسكرى، ووصل بعضهم إلى منصب الوزارة، مثل:
«رحو بن يعقوب الوطاسى» الذى ولى الوزارة فى عهد السلطان «عامر بن عبدالله المرينى»، واستمر إلى عهد «سليمان بن عبدالله»، وتولى «عمر بن على الوطاسى» الإمارة فى مدينة «بجاية» فى عهد «أبى عنان المرينى» فى سنة (759هـ= 1358م).
الأوضاع الداخلية بدولة بنى وطاس ثم سقوطها
دخل «محمد الشيخ الوطاسى» سلطان الوطاسيين فى مواجهة مستمرة – منذ أسس دولته- مع الفتن والقلاقل والثورات التى قامت بالدولة على أيدى العرب الذين أغاروا على «فاس» و «مكناسة» ودمروهما، ثم واجه ثورة «على بن راشد» فى «شفادن» وهى مدينة قريبة من «البحر المتوسط» و «المحيط الأطلسى»، و «مضيق جبل طارق»، ثم حاول «محمد بن أحمد المرينى» الاستقلال بمدينة «دبرو» التى تقع شمال شرق «المغرب»، ونجح فى ذلك، وبسط نفوذه على المناطق الغربية منها، فأدرك «محمد الشيخ» خطورته، وخرج لمواجهته مرتين، كانت الأولى فى سنة (895هـ= 1490م)، وهُزم فيها الوطاسيون، وكانت الثانية فى سنة (904هـ= 1498م)، وانتصر فيها «بنو وطاس»، وعقد سلطانهم الصلح مع «محمد بن أحمد المرينى»، وزوج السلطان ابنتيه لولدىّ الأمير «محمد»، فحل بينهما السلام.
وقد واجهت هذه الدولة ثورة بالمنطقة الجنوبية، قادها «عمرو بن سليمان الشيظمى»، الشهير بالسياف، فى سنة (870هـ= 1465م)، ولم تهدأ هذه الثورة إلا بعد أن اُغتيل «الشيظمى» على يد زوجته فى سنة (890هـ= 1485م).
والواقع أن «بنى وطاس» لم يتمكنوا من فرض سلطانهم ونفوذهمعلى كل «المغرب الأقصى»، بل يمكن القول بأن نفوذهم لم يتجاوز العاصمة «فاس»، واقتسمت القبائل والأشراف والزعامات المحلية ومشايخ الصوفية باقى البلاد.
فأدى هذا إلى نشوب الاضطرابات والقلاقل بالبلاد، وتزايد الانقسامات بها، واستغلال البرتغال والإسبان لهذه الأوضاع للتوسع وفرض النفوذ ونشر المسيحية.
ثم بدأت مرحلة أخرى من الصراع بين الوطاسيين والسعديين الذين حشدوا الناس إلى جانبهم بحجة الدفاع عن البلاد من خطر الإسبان والبرتغال، وكانوا فى حقيقة الأمر يسعون لإسقاط «دولة الوطاسيين»، ونجحوا فى السيطرة على بعض المدن المغربية، ثم دخلوا «مراكش»، وفشل «بنو وطاس» فى صدهم، وتدخل العلماء للصلح بينهما، ونجحت محاولتهم، واتفق الفريقان على اقتسام «بلاد المغرب الأقصى»، ولكنهما دخلا فى صراع ثانية، وتوسع السعديون على حساب أملاك الوطاسيين، ثم دخلوا مدينة «فاس»، وقتلوا السلطان الوطاسى «أبا حسون على بن محمد بن أبى ذكرى» فى يوم السبت (24 من شوال سنة 961هـ=22 من سبتمبر 1554م)، وبدأ السعديون بقيادة «محمد الشيخ السعدى» فى فرض نفوذهم على بقية المناطق التابعة للوطاسيين، وهكذا سقطت دولة «بنى وطاس».
العلاقات الخارجية
تعددت العلاقات الخارجية بين «بنى وطاس» و «دول المغرب»، فضلا عن الإسبان والبرتغال، وحاولوا كسب ود الحفصيين بتونس، وبايعوهم، ولكن هذا الود لم يدم، لأن الحفصيين ساندوا ثورة «الشيظمى» التى استمرت نحو عشرين عامًا، وكذلك حاول «بنو وطاس» مسالمة الإسبان والبرتغال، وعقد «محمد الشيخ الوطاسى» مؤسس الدولة معاهدة سلام مع البرتغال فى سنة (876هـ= 1471م)، ولكن البرتغاليين نقضوا هذه المعاهدة، ثم توالت الاتفاقات بين الطرفين.
وقد تطورت العلاقات بين «بنى وطاس» و «الإسبان»، أثناء الصراع الذى دار بين «ابن حسون الوطاسى» والسعديين؛ حيث التمس «ابن حسون» العون من الإسبان، وأعلن ولاءه لامبراطورهم، واستعدادهلتسليمهم «بادس» فى مقابل مساعدته فى استرداد عرش «فاس»، وساعده الاسبان بالسفن والأموال، ولكنه فشل فى استعادة عرشه، فلجأ إلى البرتغال، وساندوه بالجنود والأموال وعدة الحرب، ولكن هذه المساعدات لم تحقق أغراضها؛ إذ حاصرتها قوات الدولة العثمانية واستولت عليها، مما جعل «ابن حسون» يلجأ إليهم طلبًا للعون فى مقابل الاعتراف بسلطة الخليفة العثمانى، فمكَّنه العثمانيون من العودة إلى عاصمته «فاس» ثانية فى سنة (961هـ= 1554م)، ثم مالبث الأتراك أن سيطروا على مقاليد الأمور بفاس، وضاق الناس بذلك، فاضطر «ابن حسون» إلى تعويض الأتراك بمبالغ مالية كبيرة للرحيل عن العاصمة، ففعلوا، وواصل «ابن حسون» نشاطه ضد السعديين، حتى سقط قتيلا، ومن ثم سقطت «دولة بنى وطاس».
بعض المظاهر الحضارية
– النظام السياسى والإدارى
كان الحكم وراثيا فى «بنى وطاس»، وكان السلطان يعين كبار مستشاريه من كبار الشخصيات، وكان للسلطان أمين سر مهمته الإشراف على أموال السلطان، كما كان السلطان يُعيِّن حكامًا على كل مدينة، وجعل لهم الحق فى التصرف فى مواردها، وتزويد جيش السلطان بالجنود من مدنهم، وتعيين وكلاء من طرفهم على القبائل التى تسكن الجبال، وجباية الأموال، وأخضع السلطان كل ذلك لسلطته، وأحكم قبضته على مقاليد الأمور، كما أخضع كل موارد الدولة لخدمة الأغراض العسكرية.
واتخذوا الوزراء من أقاربهم، واستوزر «محمد الشيخ الوطاسى» أخويه «محمد الحلو» و «الناصر أبا زكريا»، وعين مسعود بن الناصر خلفًا لأبيه على الوزارة، وقد تنوعت اختصاصات الوزراء بين المهام السياسية والحربية إلى جانب أعمالهم الإدارية.
وتنوعت الوظائف الإدارية وشملت: الباشا، والقائد، والقاضى، والمحتسب، ويساعدهم مجموعة من الموظفين، منهم: الأمين والناظر، وأمين المواريث. وقد نشطت حركات الاستقلال أثناء ضعف الحكومة المركزية بفاس، وغياب سلطتها عن مناطق الأطراف، والمناطق النائية.
النواحى الاقتصادية
نجحت الزراعة نجاحًا عظيمًا، كعادتها ببلاد «المغرب»، وكثرت المحاصيل وزادت أنواع الفواكه، وساعدت هجرة الأندلسيين إلى «بلاد المغرب» على إدخال النظم الزراعية الحديثة، واستحداث أنواع كثيرة من المحاصيل بالبلاد.
وقد ترتب على ازدهار الزراعة قيام صناعات كثيرة، إلى جانب الصناعات التى كانت موجودة من قبل، واشتهرت «فاس» بصناعات الأحذية والأوانى النحاسية والخيوط والمنسوجات. وكذلك صناعة الحلى.
ونشطت التجارة – خاصة فى أوقات السلم- وتوافرت الطرق الداخلية التى تربط بين المدن، كما توافرت الطرق الرئيسية التى تسير فيها القوافل من المدن المغربية وإليها، مثل: «سوسة» و «درعة» اللتين حظيتا بنشاط تجارى كبير.
وتنوعت صادرات «المغرب» من الأوانى النحاسية، والمصنوعات الجلدية والزجاجية، والقطنية والحريرية، وكذلك التمور بأنواعها والتين والحلى، أما وارداتهم فكانت الذهب وبعض التوابل.
الحياة الاجتماعية
لم تختلف طبقات المجتمع كثيرًا فى العهد الوطاسى عما سبقه من عهود، واحتل الجيش مكانًا بارزًا، نظرًا لكثرة الحروب التى خاضها الوطاسيون، وقد انقسم هذا الجيش إلى قسمين هما: الجيش النظامى، وأفراده من البربر، ويضم: الفرسان والرماة وراشقى السهام، والمشاة، والقسم الثانى: من المتطوعة من العرب وغيرهم، وقد عرف جيش الوطاسيين نظام الحصون والحاميات.
وتوقف نشاط الوطاسيين العمرانى على مدينة «فاس»، ويرجع ذلك إلى الأوضاع السياسية المضطربة التى سادت تلك الفترة، وانصراف «بنى وطاس» إلى المعارك والحروب، وصرف إمكاناتهم المادية فى التسليح والإنفاق على الجيش. وقد أدى كل ذلك إلى توقف النشاط العمرانى، وتناقص عدد الفنادق والمستشفيات، وقلة الاهتمام بالمرضى.
الحياة الفكرية
شهدت العلوم الدينية نشاطًا ملحوظًا، وبرز عدد كبير من العلماء فى المجالات كافة، منهم: «أبو عبدالله بن أبى جمعة الهبطى»، صاحبكتاب: «الوقف فى القرآن الكريم»، والمتوفى عام (930هـ= 1524م)، والفقيه «محمد بن عبدالله بن عبدالواحد الفاسى» المتوفى عام (894هـ= 1489م)، وألف «الوتشريشى» عدة كتب منها: «المعيار المعزب، والجامع المعرب عن علماء إفريقية والأندلس والمغرب»، وهو فى اثنى عشر جزءًا.
وفى علم التاريخ برز القاضى «أبو عبدالله محمد الكراسى الأندلسى»، الذى ألف منظومة عن «بنى وطاس»، أسماها: «عروسة المسائل فيما لبنى وطاس من فضائل». وتقع هذه المنظومة فى نحو ثلاثمائة بيت، وهى المصدر الوحيد الذى يعتمد عليه المؤرخون فى التأريخ لهذه الفترة، حيث لم يصل إليهم غيره.
ويعد كتاب «وصف إفريقيا» للجغرافى «حسن الوزان» من أهم الكتب وأشهرها فى هذا المجال، وقد تناول فيه جغرافية «إفريقية» عمومًا، و «المغرب الأقصى»، و «مملكة فاس»، و «مملكة مراكش»، كما تناول العادات والتقاليد والحياة الاقتصادية والفكرية والدينية، والنظم الإدارية.
وتنافس الشعراء والوعاظ – فى هذه الفترة- فى تأليف الخطب والقصائد الحماسية؛ لحث الناس على جهاد الأسبان والبرتغال، ومن أبرز هؤلاء المؤلفين «أبو عبدالله محمد بن عبد الرحيم التازى» المتوفى عام (920هـ= 1514م)، وله مؤلف عنوانه: «تنبيه الهمم العالية، والانتصار للملكة الذاكية، وقمع الشرذمة الطاغية، عجل الله دمارها، ومحا ببواتر المسلمين آثارها».
ووجدت علوم اللغة اهتمامًا بالغًا، وألف «عبدالعزيز بن عبدالواحد اللمطى الميمونى» ألفية فى النحو تضاهى ألفية «ابن مالك»، و «ابن عبدالواحد»، وهو من أهل «فاس» وقد توفى عام (880هـ= 1475م)، وكذلك قام العالم «أبو العباس أحمد بن محمد» المتوفى عام (995هـ= 1587م) بتدريس الفلك والحساب بجامع القرويين بفاس.
دولة بنى زيان
[633 – 962هـ= 1235 – 1555م] تمهيد: ترجع تسمية هذه الدولة بهذا الاسم إلى «زيان بن ثابت»، والد «يغمراس» مؤسسها، كما أنها تسمى بدولة بنى عبدالواد (العبدالوادية) نسبة إلى قبيلة «عبد الواد» التى ينتمى إليها «بنو زيان».
وقد قامت هذه الدولة بالمغرب الأوسط (الجزائر حاليا) وكان يحدها غربًا «نهر ملوية»، ومدينة «قسنطينة» من الجانب الشرقى، وكانت هذه المنطقة تضم عدة مدن منها: «بجاية»، و «الجزائر»، و «وهران»، و «قسنطينة»، و «مليانة»، و «تلمسان».
قيام دولة بنى زيان
شجع ضعف «دولة الموحدين» عقب هزيمتهم فى معركة «العقاب» فى سنة (609هـ= 1212م)، بعض القوى على الاستقلال، فشجع ذلك بدوره «بنى عبدالواد» على الاستقلال بالمغرب الأوسط، فاستولوا على «تلمسان» فى سنة (627هـ= 1230م).
ويعد «يغمراس بن زيان» الذى تولى الإمارة بعد أخيه فى سنة (633هـ= 1235م) هو المؤسس الحقيقى لهذه الدولة، حيث سالم جيرانه من الموحدين كى لا يعرض دولته الناشئة لمعارك جانبية، تصرفه عن تأسيس الدولة، وبنى سياسته فى هذه المرحلة على عاملين مهمين هما:
العامل العسكرى
جاور «الحفصيون» «بنى زيان» من جهة الشرق، وجاورهم «بنو مرين» من الغرب، وهاجم «بنو حفص» مدينة «تلمسان» فى سنة (640هـ= 1242م)، فهادنهم «بنو زيان» وبايعوهم، ودعوا على منابرهم للحفصيين، وفى الوقت نفسه بعثوا بجنودهم إلى الجبال واتخذوا من الإغارة على القوات الحفصية وسيلة لطردهم من «تلمسان» و «المغرب الأوسط»، فاضطر الحفصيون إلى عقد الصلح معهم وأعادوا «يغمراس» إلى مقر حكمه بتلمسان ثانية، وكذلك فعل «بنو زيان» مع الموحدين فى سنة (646هـ= 1248م) ثم قاموا بغارات كثيرة على القبائل الموجودة داخل «المغرب الأوسط»، مثل قبائل «توُين» و «مغرادة».
العامل السلمى
لم يكتف «يغمراس» بالمعارك والغارات، وعمد إلى تحصين بلاده شرقًا وغربًا، وجاء بقبيلة «بنى عامر» وأقطعها نواحى «وهران» و «تلمسان» لتكون حائط الصد لأعدائه، ثم دعم كيان دولته بمصاهرة الحفصيين، حيث زوج إحدى بناته لعثمان ابن الأمير الحفصى «أبىإسحاق»، فأمن بذلك شرهم، وهجماتهم على الحدود الشرقية لدولته.
تطور دولة بنى زيان
كانت القبيلة من أهم العوامل التى أثرت فى سياسة دولة «بنى زيان» وكيانها؛ حيث دخلت هذه الدولة فى صراع طويل مع قبائل:
«بنى توُين» و «مغرادة» من البربر، و «بنى عامر سويد» من العرب، لرفض هذه القبائل الخضوع لغيرها، ولتعصبها لبنى جلدتها وقبيلتها، وشقت عصا الطاعة، ثم زادت حدة موقفها بعد وفاة «يغمراس» فى سنة (681هـ= 1282م)، واضطر الأمير «عثمان» الذى خلف والده «يغمراس» إلى مواجهتهم، فاستولى على «مازونة» من «مغرادة» فى سنة (686هـ= 1287م)، ثم احتل مدينة «تنس»، ودخل «إنشريش» ولكن هذا الاتساع عاد إلى الانكماش ثانية نتيجة احتلال «بنى مرين» للمغرب الأوسط، وحصارهم «تلمسان» فى سنة (698هـ= 1299م)، وعادت القبائل مرة أخرى إلى التمرد والعصيان عقب وفاة الأمير «عثمان»، فخرج إليهم الأمير «أبو زيان محمد الأول» (703 – 707هـ= 1303 – 1307م)، ثم خضعت هذه الدولة أكثر من مرة لدولة بنى مرين مثلما حدث فى سنة (670 – 680هـ= 1271 – 1281م) وسنة (689هـ= 1290م) وسنة (737 – 749هـ= 1336 – 1348م) ولكن بنى زيان كانوا يرفضون هذا الخضوع، وينتهزون الفرصة للعودة إلى حكم بلادهم.
وقد عاشت هذه الدولة فى حروب واضطرابات دائمة، ونشبت الخلافات بين أفراد البيت الزيانى، وأدى التهافت على السلطة بينهم إلى أن يشهر الولد السيف فى وجه أبيه، بل يتعدى ذلك، ويقتل أباه، مثلما حدث مع «أبى تاشفين (الثانى) عبد الرحمن» (791 – 795هـ=1389 – 1393م) ووالده السلطان «أبى حمو موسى (الثانى) بن يوسف»، حين خلع «تاشفين» أباه من السلطة، واستولى على الحكم، ثم اعتقل أباه وإخوته فى سنة (788هـ= 1386م) فقامت حروب بين أفراد هذه الأسرة، وعاد «أبو حمو» إلى عرشه، واستعان «ابنه تاشفين» ببنى مرين عليه، وحاربه، ثم قتله وعاد «تاشفين» إلى الحكم فى ظل التبعية لبنى مرين.
سقوط دولة بنى زيان
تفشت ظاهرة قتل السلاطين بدولة بنى زيان، وزاد التناحر بين أفراد البيت الزيانى، وتكررت هجمات الاسبان على الشواطئ المغربية، واستولوا على «مرسى وهران» فى سنة (911هـ= 1505م)، ثم استولوا سنة (912هـ= 1506م) على «وهران» و «بجاية» و «تدلس» وهى موانى تابعة «لبنى زيان»، وارتضى «أبو حمو الثالث» (909 – 923هـ= 1503 – 1517م) دفع ضريبة سنوية للإسبان لكى يبقى فى مقعد الحكم، فاستنجد الناس بالأتراك العثمانيين لتخليصهم من هذا الاحتلال، فأسرع لنجدتهم الأخوان «عروج» و «خير الدين» ابنا «يعقوب التركى»، اللذان كانا يحملان المتطوعين فى السفن لإنقاذ مهاجرى الأندلس، ونقلهم إلى أرض «المغرب»، ودارت معركة بين الطرفين، وأرسلت إسبانيا بالإمدادات لتعزيز قواتها وحليفها «أبى حمو» الذى فر إلى «وهران» للاحتماء بالقوة الإسبانية هناك، وحاصر الإسبان مدينة «تلمسان» واستشهد «عروج» فى سنة (924هـ= 1518م)، ومات «أبو حمو الثالث» فى السنة نفسها.
وتوالت الاضطرابات، وزاد التنافس على العرش، وأقبل السعديون من «المغرب الأقصى» واستولوا على «تلمسان» فى سنة (957هـ= 1550م).
وانقسم البيت الزيانى إلى طوائف ثلاث: إحداها تضامنت مع الأتراك، والأخرى استعانت بالأسبان، والأخيرة تحالفت مع السعديين، وتحرك الأتراك، ودخلوا فى معركة مع السعديين وهزموهم، فعادوا إلى «المغرب الأقصى»، ودخل الأتراك العاصمة «تلمسان». وكان آخر حكام «بنى زيان» هو «الحسن بن عبدالله» (957 – 962هـ= 1550 – 1555م) الذى ثار عليه الناس لميله إلى الإسبان فخلعه الأتراك، وضموا «تلمسان» إلى حكومة «الجزائر» التركية فى سنة (962هـ= 1555م).
العلاقات الخارجية
كان موقع «الدولة الزيانية» بالمغرب الأوسط حافزًا للقوى الأخرى بالمغرب على التطلع إليها، بغرض السيطرة وفرض النفوذ، ولعل هذا هو ما فعله الموحدون، و «بنو مرين»، و «الحفصيون». وظلت العلاقاتبين هذه الدولة وهذه القوى بين شَد وجذب، فتارة يخضع «بنو زيان» للنفوذ الموحدى والمرينى والحفصى، وتارة ينعمون باستقلالهم، وأخرى يمتد فيها نفوذهم إلى بعض مناطق المغربين الأدنى والأقصى.
ولقد وقف «بنو زيان» فى بداية الأمر فى وجه الزحف الموحدى، إلا أن الموحدين تمكنوا من إخضاعهم والسيطرة على «المغرب الأوسط»، ودخل «بنو زيان» فى تبعية الموحدين، فلما قويت شوكة «بنى زيان» كانت «دولة الموحدين» فى مرحلة الضعف والانهيار، فبدأ الموحدون يتوددون إليهم ويهادنونهم، فخشى الحفصيون من هذا التحالف، وتوجهوا إلى «تلمسان» واستولوا عليها فى سنة (640هـ= 1242م) بمساعدة بعض قبائل «المغرب الأوسط»، واشترطوا لعودة «بنى زيان» إلى الحكم أن يخلعوا طاعة الموحدين ويعلنوا تبعيتهم للحفصيين، فقبل «بنو زيان» ذلك، وعادوا إلى حكم «تلمسان». ولكن الموحدين لم يعجبهم هذا الوضع وحشدوا جيوشهم وحاصروا «تلمسان»، فأعلن «بنو زيان» طاعتهم لهم، وساعدوهم فى صراعهم مع المرينيين على الرغم من العلاقات المتوترة بينهما، وظل هذا شأنهما حتى سقوط «دولة الموحدين» فى سنة (668هـ= 1269م). أما علاقة «بنى زيان» بالحفصيين، فكانت علاقة عداء؛ نظرًا لتضارب مصالح الدولتين، حيث رغبت كل منهما فى التوسع على حساب الأخرى. وقد بدأت هذه العلاقات باستيلاء الحفصيين على «تلمسان» فى سنة (640هـ= 1242م)، ثم بدأت بينهما المفاوضات، وعاد «يغمراس» إلى عاصمته «تلمسان» وأعلن تبعيته للحفصيين، ولكن «بنى زيان» لم يرضوا بهذه التبعية وأعلنوا استقلالهم عن هذه التبعية فى عهد «المتوكل الزيانى» فى سنة (868هـ= 1464م)، ومن ثم حاصرتهم جيوش الحفصيين فى «تلمسان» فى سنة (871هـ= 1466م)، وهدموا أسوارها، وأجبروهم على إعلان الطاعة والتبعية للحفصيين ثانية.
وقد عمد الحفصيون إلى إحداث الفُرقة، وإشعال الفتنة بين أفراد البيت الزيانى، حتى يتسنى لهم إحكام قبضتهم عليهم، ويضمنواتبعيتهم، وتم لهم ذلك واستمر حتى دبَّ الضعف والتفكك بين سلاطين «بنى حفص» وأفراد أسرتهم، فوجه إليهم بنو زيان عدة ضربات متوالية، وتمكنوا من هزيمتهم والاستيلاء على «تونس» فى سنة (730هـ= 1330م).
وعلى الرغم مما سبق فقد شهدت العلاقات الزيانية الحفصية – أحيانًا- بعض حالات الهدوء، وحسن الجوار، وتجلى ذلك حين صاهرهم «يغمراس» وزوَّج ابنه «عثمان» إحدى بنات «أبى إسحاق الحفصى» فى سنة (681هـ= 1282م).
بعض المظاهر الحضارية
– النظام السياسى والإدارى
كان الحكم فى «دولة بنى زيان» وراثيا، وكانت ألقاب حكامهم تتراوح بين «أمير المسلمين» ولقب «السلطان»، وقد تفشت ظاهرة قتل سلاطينهم على أيدى أفراد أسرتهم الحاكمة للوصول إلى الحكم، كما فعل «تاشفين» مع والده «أبى حمو».
وتعددت المناصب الإدارية فى هذه الدولة، وجاء منصب «الوزارة» فى مقدمتها، كما كان قاضى القضاة يتقدم مجموعة القضاة بالدولة، وكذلك كان قائد الجيش من رجال هذه الدولة البارزين، ولذا كان السلطان يختاره من أفراد أسرته، أو يتولى هو مكانه، ويخرج بنفسه على رأس الجيوش. وكان ديوان الإنشاء والتوقيع من أبرز الدواوين، لأنه يختص بالمراسيم السلطانية، ومراسلات الدولة مع غيرها من الدول.
الحياة الاقتصادية
تمتع «المغرب الأوسط» بسطح متنوع، جمع بين السهل الساحلى والوديان الداخلية، وسلسلة جبال الأطلس، فضلاً عن تمتعه بمناخ يختلف من منطقة إلى أخرى، وبتربة خصبة صالحة للزراعة، وبأنهار منتشرة فى كل مكان مثل نهرى «شلف» و «سيرات»، وبعيون مائية منبثة، وبأمطار تسقط على منطقة الساحل، فهيأت كل هذه العناصر لقيام زراعة ناجحة، أولاها ولاة الأمر عنايتهم ورعايتهم، فتنوعت المحاصيل الزراعية، كما ازدهرت صناعة الأقمشة الحريرية والصوفية، وصناعة السجاد والبسط، وكذلك صناعة السفن الحربية والتجارية، والأسلحة، والمصنوعات الجلدية، والمشغولات الذهبية والفضية والنحاسية.
وكان لموقع «المغرب الأوسط» دور كبير فى تنشيط التجارة، باعتباره همزة الوصل بين المغربين الأدنى والأقصى، حيث تمتد شواطئه، وتكثر موانيه المطلة على «البحر المتوسط»، فضلا عن طرق التجارة المتعددة بجنوبه، والتى كانت تمر منها القوافل التجارية القادمة من جنوب الصحراء قاصدة الموانى المطلة على «البحر المتوسط»، لتكمل رحلتها إلى «أوربا» وغيرها من المناطق.
وقد تعددت صادرات «المغرب الأوسط»، وكان الصوف والأسلحة والمنتجات الزراعية من أهم صادرات «بنى زيان» وأسهمت موانى:
«وهران» و «تنس» و «الجزائر» و «بجاية» إسهامًا بارزًا فى تنشيط التجارة، وازدهار الاقتصاد، وكان ذلك سببًا رئيسيا فى اهتمام سلاطين «بنى زيان» بالبناء والتعمير، فتنوعت فى عهدهم المؤسسات وعُنوا بإنشاء المساجد والمدارس والقصور، والمنشآت العسكرية، وكانت أبرز مساجدهم هى: «مسجد أبى الحسن» الذى أمر «عثمان بن يغمراس» ببنائه سنة (696هـ= 1296م)، و «مسجد الولى إبراهيم» الذى تم بناؤه فى عهد أبى حمو الثانى، كما شهد عهد «أبى تاشفين الأول» نهضة عمرانية كبيرة.
وتعددت المدارس بتلمسان ووهران، وكانت أبرز هذه المدارس هى «المدرسة التاشفينية» (أو المدرسة القديمة) التى أنشأها «أبو تاشفين بن عبد الرحمن» (718 – 736هـ = 1318 – 1336م)، و «المدرسة اليعقوبية» التى بناها «أبو حمو موسى الثانى»، وكان افتتاحها فى الخامس من صفر سنة (765هـ= نوفمبر 1363م).
وبنى «بنو زيان» الحصون والأبراج والأسوار والقلاع العسكرية لتحصين بلادهم، ومن أبرز قلاعهم: قلعة «تامز يزدكت» التى كانت مركز مقاومتهم على الحدود الشرقية مع «بنى حفص».
الحياة الفكرية
اهتم «بنو زيان» بتنشيط الحركة الفكرية فى بلادهم، ودعموها بإنشاء المدارس والمساجد والكتاتيب والزوايا لتعليم الطلاب، ولم يختلف أسلوب التعليم فى دولتهم عن مثيله فى «دولة بنى مرين» و «دولة الحفصيين»، وامتلأت المؤسسات التعليمية بالعلماءالمتخصصين فى كل علم وفن، وقد لقى هؤلاء من الدولة معاملة حسنة وأغدقت عليهم المنح والعطايا، وولتهم المناصب الرفيعة حتى ينهضوا بالمستوى التعليمى والفكرى فى البلاد.
واستعاد المذهب المالكى مكانته بدولة «بنى زيان» كما استعاده فى بقية الدول الأخرى عقب سقوط «دولة الموحدين»، وازدهرت علوم التفسير والفقه والحديث والمنطق والجدل والكلام، وغيرها من العلوم، وتبوأت مجموعة من العلماء مكانة ممتازة لدى «بنى زيان»، منهم:
«أبو إسحاق إبراهيم بن يخلف التنسى» المتوفى عام (680هـ= 1281م)، و «أبو عبدالله محمد بن محمد المقرى» المتوفى عام (759هـ= 1358م) والذى تتلمذ على يديه مجموعة من العلماء النابغين، أمثال:
ابن الخطيب، وابن خلدون، والشاطبى وغيرهم.
وبرزت كذلك جماعة من العلماء فى علوم اللغة والأدب منهم: «أبو عبدالله بن عمر بن خميس التلمسانى» المتوفى عام (708هـ= 1308م)، وقد أشرف على «ديوان الإنشاء» بتلمسان فى عهد «عثمان بن يغمراس»، و «أبو عبدالله محمد بن منصور القرشى التلمسانى» الذى أنشأ «ديوان الرسائل» فى عهد أبى حمو الأول.
الدولة الحفصية
[625 – 893 هـ= 1228 – 1488م]:
ينتسب الحفصيون إلى «أبى حفص عمر بن يحيى» الذى ينتمى إلى «قبيلة هنتانة»، وهى من قبائل المصامدة التى عاشت بالمغرب الأقصى، واتخذت المعاقل والحصون، وشيدت المبانى والقصور، وامتهنوا الفلاحة وزراعة الأرض. وقد طمع الحفصيون فى الاستقلال بإفريقية بعد هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى سنة (609هـ= 1212م)، وعملوا على تحقيق ذلك حتى سنة (625هـ= 1228م)، فوصل «أبو زكريا بن عبدالواحد الحفصى» إلى مقعد الإمارة بتونس، ومهد لقيام «دولة الحفصيين» حتى سنة (627هـ= 1230م) فبايعه الحفصيون واستقل عن طاعة الموحدين وضم إليه «الجزائر» و «تلمسان».
وقد واجهت الدولة الحفصية عدة ثورات، إلا أنها تمكنت من القضاء عليها فى عهد قوتها، فلما حل الضعف بخلفاء الأمير «أبى زكرياالحفصى»، زادت الخلافات بين أفراد الأسرة الحاكمة، وقامت الثورات فى أماكن كثيرة، ولم يتمكن أمراء الحفصيين من مواجهة هذه الاضطرابات، فحل الضعف بدولتهم حتى سقطت على أيدى العثمانيين سنة (893هـ=1488م).
العلاقات الخارجية: تنوعت علاقات «الدولة الحفصية»، وشملت «الأندلس»، و «أوربا»، ودول: «بنى مرين» والوطاسيين والزيانيين.
واتسمت علاقتهم بالأندلسيين بالهدوء تارة وبالتوتر والمنافسة تارة أخرى، وكذلك تمثلت علاقتهم بالأوربيين فى عدة حملات عسكرية، عُرفت باسم الحروب الصليبية، وسعى الصليبيون إلى تحويل مسلمى «المغرب الأدنى» إلى المسيحية، غير أن وباءً تفشى بالمعسكر الصليبى، وتوفى لويس متأثرًا بهذا الوباء، فلجأ الصليبيون إلى التفاوض والصلح مع الحفصيين، ثم الانسحاب فى سنة (669هـ= 1270م) ولكن الصليبيين عاودوا الهجوم على مدينة «طرابلس» فى سنة (755هـ= 1354م)، واستولوا عليها واستباحوها، ولم يخرجوا منها إلا بعد الحصول على قدر كبير من المال، ثم توالت حملاتهم الصليبية بعد ذلك على بلاد «المغرب الأوسط» ومدنه.
وقد مرت العلاقات الحفصية المرينية بعدة مراحل ارتبطت بالأحوال والظروف السياسية التى كانت تمر بها كل من الدولتين، واتسمت هذه العلاقات بالصراع بين الطرفين، ودخول بنى حفص فى تبعية «بنى مرين» فى أحايين كثيرة، ولكن ذلك لم يمنع من قيام بعض العلاقات الطيبة فى فترة حكم «عثمان ابن أحمد المرينى» (801 – 823هـ = 1398 – 1420م)، و «عبدالحق بن سعيد المرينى» (863 – 869هـ = 1459 – 1465م).
– بعض المظاهر الحضارية
الجانب السياسى والإدارى
عرفت «دولة بنى حفص» نظام الخلافة، وكان الحكم بها وراثياًّ، ويعاون الخليفة هيئة استشارية، يُطلق عليها اسم أشياخ البساط، وجميعهم من قبيلة «هنتانة» التى تنتمى إليها الأسرة الحاكمة، وكذلك عرفت هذه الدولة نظام الحجابة، وتطور هذا النظام لدرجة أنالحاجب كان يفصل فى الأمور دون الرجوع إلى الخليفة، وجاء منصب الوزارة فى مرتبة تلى منصب الحجابة، ويأتى إلى جانبهما منصب القضاء الذى أولاه الحفصيون عنايتهم لأهميته.
الحياة الاقتصادية
تنوعت مصادر الدخل فى «دولة بنى حفص»، وشملت: الضرائب والزكاة، والجزية، والمصادرات، والخراج، وانتعشت الزراعة وكثرت المحاصيل، ونشطت الصناعات مثل: المنسوجات بأنواعها، والصناعات الجلدية والزجاجية، وصناعة الأسلحة والسفن، واستخدم «بنو حفص» عملة خاصة بهم ليؤكدوا استقلالهم.
الحياة الاجتماعية
تشكل المجتمع الحفصى من عدة عناصر، وكانت قبيلة هنتاتة البربرية فى مقدمة هذه العناصر، كما كان العرب المقيمون، والعرب الهلالية ممن شكلوا هذا المجتمع، تضاف إليهم مجموعات الروم والأتراك.
وشهدت «الدولة الحفصية» حركة واسعة فى البناء والتعمير، وأقام الحفصيون المؤسسات التعليمية مثل: الكتاتيب، والزوايا والمساجد، فقامت بدورها فى دعم العلوم المختلفة وتدريسها، ثم أنشأ الحفصيون المدارس بالعاصمة «تونس»، وكانت أول مدرسة هى «المدرسة الشماعية» التى أنشأها «أبو زكريا يحيى الأول» فى سنة (633هـ= 1235م)، وتلتها «التوفيقية» فى سنة (650هـ= 1252م).
وأخذت «الدولة الحفصية» بالمذهب المالكى، واهتمت بالعلوم الدينية مثل تفسير القرآن، وعلم الحديث، والفقه، وكذلك اهتم الحفصيون بالعلوم العقلية مثل: المنطق والكيمياء والفلك وغيرها. وساهمت المكتبات – التى زُوِّدت بالكتب فى شتى فروع المعرفة- فى تنشيط الحركة الثقافية بالبلاد، وكذا ساهمت المجالس العلمية، التى شجعها بعض الحكام الحفصيين فى إثراء النشاط العلمى ودعمه.
وقد أثمرت هذه الحركة الثقافية المزدهرة مجموعة من العلماء البارزين فى شتى فروع العلم والمعرفة، فكان من الفقهاء «أبو عبدالله محمد بن عرفة» المتوفى عام (802هـ= 1399م)، ومن المحدثين: «أبو بكر بن سيد الناس» المتوفى عام (659هـ= 1261م)،ومن النحويين: «أبو الحسن على بن موسى» المعروف «بابن عصفور» المتوفى عام (969هـ= 1561م)، ومن الشعراء: «حازم القرطاجنى» المتوفى عام (684هـ= 1285م)، و «ابن الأبار» المتوفى عام (662هـ= 1264م).
وقد أسهم هؤلاء وغيرهم فى دعم المعرفة، وتنشيط الثقافة، ومؤازرة الحركة الفكرية فى دولة «بنى حفص».