من المولد إلى البعثة

إرهاصات وبشارات قبل مولد خير البرية

الإرهاصات هي البشارات والأمور الخارقة للعادة التي يُحدثها الله عز وجل للنبي؛ تبشيراً بنبوته قبل مجيئه وبعثته، فالأحداث العظيمة غالباً يسبقها من الإشارات ما يكون مؤْذِناً بقربها، وعلامة على وقوعها، ولم يطرق البشرية حدث أعظم من ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان مولده ميلاد أمة سعدت بميلادها الأمم، فهو الرسول المُصطفى، والنبي المُجْتَبَى، الذي ختم الله به أنبياءه، وأرسله رحمة للعالمين كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، واختصه دون غيره من الرسل بفضائل وخصائص ومعجزات كثيرة، تشريفاً وتكريماً له، ما يدل على جليل قدره، وعلو منزلته عند ربه، فهو أعظم الناس خُلُقا، وأصدقهم حديثًاً، وأحسنهم عفواً، خير من وطئ الثرى، سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وتُفتح له الجنة، قال عنه ربه عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح:4)، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم: 4)، وقال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: “ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه “، وقال عمه العباس عن مولده صلى الله عليه وسلم:

       وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ       وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ

       فَنَحْنُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ فِي الضِّيَاءِ        وسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ

ومن المعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في يوم الاثنين من ربيع الأول، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن صوم يوم الاثنين، فقال: (فيه وُلدتُ، وفيه أُنزِلَ عليَّ) رواه مسلم، ولا خلاف في كون مولده صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين بمكة المكرّمة عام الفيل، فعن قيس بن مخرمة رضي الله عنه قال: (وُلِدْتُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل) رواه البيهقي، وأكثر أهل السِيَّر على أنه صلوات الله وسلامه عليه وُلِدَ يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعد حادثة الفيل بخمسين يوماً، قال ابن عبد البَرِّ: “وُلِدَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قُدومِ الفِيلِ بشهر، وقيل بِأَرْبَعِين يَوْماً، وقيل بِخَمْسِين يوماً”. وقد سبق مولده صلوات الله وسلامه عليه أحداث وإرهاصات سُجِّلت في السيرة النبوية، ومنها:

إقرأ أيضا:قبس من حياة النبي قبل البعثة

حادثة عام الفيل

هذه الحادثة مشهورة وثابتة بالكتاب والسنة، والتي حاول فيها أبرهة الأشرم غزو مكة وهدم الكعبة، وقد ذكر سبحانه هذه الحادثة في كتابه الكريم، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (الفيل:1-5)، قال الماوردي: “آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل”.

وقال ابن كثير: “هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كان عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال”.

إقرأ أيضا:عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم

وقال ابن تيمية: “وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان، ودين النصارى خير من دينهم، فعُلِم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي وُلِدَ في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعهما، وأيّ ذلك كان، فهو من دلائل نبوته”.

نور يخرج من حَمْلِ أمِّه به

عن لقمان بن عامر قال سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَة يقول: (قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله ما كان أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِك؟ قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني. قال ابن كثير: “قوله: (ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام) قيل: كان مناماً رأته حين حملت به، وقَصَّته على قومها، فشاع فيهم، واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة”. وقال ابن رجب: “خروج هذا النور عند وضعه؛ إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة:15-16)، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف:157)”.

إقرأ أيضا:التعبد في غار حراء

ظهور نجم أحمد في السماء

هاجر اليهود إلى مكة والمدينة ينتظرون ولادة النبي الخاتم أحمد صلى الله عليه وسلم الموجودة أوصافه في التوراة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصَّف:6)، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: “يعني: التوراة قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد، فعيسى عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، قد قام في ملإ بني إسرائيل مبشراً بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة”.

ونجم أحمد هو نجم لامع في السماء، له خصائص تختلف عن غيره من النجوم، وقد عرف به اليهود أن أحمد خاتم الأنبياء قد وُلِدَ، روى ابن إسحاق عن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: “والله، إني لغلام يفعةٌ (شبَّ ولم يبلغ)، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كلَّ ما سمعت، إذ سمعت يهوديًّا يصرخ بأعلى صوته على أطمةً (حصن) بيثرب: يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ما لك؟، قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي وُلِدَ به” رواه البيهقي وصححه الألباني. وروى أبو نعيم وحسنه الألباني عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حَبْرٌ من أحبار الشام: “قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه”.

لقد كانت مكة على موعد مع أمر عظيم سيظل يشرق بنوره على الكون كله إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، إنه ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان نذيراً بزوال الشرك والظلم، ونشر التوحيد والعدل بين الناس، وعندما قرب شروق مولده صلوات الله وسلامه عليه كانت له إرهاصات وأحداث فريدة. وقد أكثر المؤلفون في ذكر تلك الإرهاصات والحوادث، التي اقترنت بميلاده صلى الله عليه وسلم، والتي فيها الصحيح الثابت والضعيف الذي لا يصح.

قال الشيخ الألباني في كتابه “صحيح السيرة النبوية”: “قد وردت بعض الروايات الواهية بلا إسناد تخص أحداثاً وقعت عند ميلاده صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت منها شيء، منها ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، وخمود النيران التي كان يعبدها المجوس، وانهدام الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، وغير ذلك من الدلالات التي ليس فيها شيء ثابت”. 

وقال صفي الرحمن في كتابه الرحيق المختوم: “رُوِيَ أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبري والبيهقي وغيرهما، وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعي التسجيل”.

النبوات والرسالات من أعظم النعم التي أكرم الله عز وجل بها الناس، وأفضل هذه الرسالات وأعظمها وأشملها هي رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك أحاطها الله بعنايته وشملها برعايته، وجعل لها دلائل باهرة وعلامات ظاهرة، قبل ولادته وقبل بعثته وبعدها صلوات الله وسلامه عليه.

السابق
ضرب الأمثال في السيرة النبوية
التالي
الطِيب والعِطر سُنّة نبوية