من الحديبية إلى تبوك

أهم الأحداث بين عمرة القضاء وغزوة مؤتة

بين عمرة القضاء وغزوة مؤتة أيام قليلة ، ولكنها لم تخل من أحداث مهمّة ومواقف مشهودة في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – خاصة ، وحياة المسلمين عامة.

فبعد عمرة القضاء التي كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وما تحقّق خلالها من معاني العزة والكرامة ، جاءت الأحداث التالية :

الزواج من أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث

بمجرّد أن انتهى النبي – صلى الله عليه وسلم – من مناسك الإحرام تقدّم للزواج من ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وهو بمكّة ، فأوكلت رضي الله عنها أمر زواجها للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وبذلك تكون ميمونة رضي الله عنها آخر من تزوّج بهنّ النبي – صلى الله عليه وسلم .

وقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من زواجه هذا أن يكون حلقة وصلٍ بينه وبين أهل مكّة ، لكنّهم منعوه من المكوث في الحرم بعد انقضاء المهلة التي اتفقوا عليها وقالوا : “إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا ” ، فقال لهم : ( وما عليكم لو تركتموني ، فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاما ، فحضرتموه ؟ ) ، فقالوا له : ” لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا ” ، رواه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي .

إقرأ أيضا:رسائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والأمراء

فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم من مكّة ، وبنى بميمونة رضي الله عنها في موضع يُقال له ” سرف ” ، وهو ذات الموضع الذي توفّيت فيه ، فرضي الله عنها وأرضاها .

لحوق بنت حمزة بن عبد المطلب بركب المسلمين

كان لحمزة رضي الله عنه بنت تقيم في مكة يُقال لها عمارة ، وعندما أنهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عمرته وتوجّه إلى المدينة لحقته عمارة وقامت تناديه ، فأدركها ابن عمّها علي بن أبي طالب رضي الله عنها وسلّمها لفاطمة عليها السلام وقال : ” دونك ابنة عمك فاحمليها ” ، فاختصم في شأنها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم كلّهم يريد رعايتها وتولّي شؤونها ، فقال علي : ” أنا أحق بها ، وهي ابنة عمي ” ، وقال جعفر : ” ابنة عمي وخالتها تحتي ” ، وقال زيد : ” ابنة أخي ” ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال : ( الخالة بمنزلة الأم ) ، ثم أراد تطييب خاطر الثلاثة فقال لعلي : ( أنت مني وأنا منك ) ، وقال لجعفر : ( أشبهت خَلقي وخُلُقي ) ، وقال لزيد :   ( أنت أخونا ومولانا ) رواه البخاري .

إقرأ أيضا:فوائد من كتاب النبي إلى مقوقس مصر

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة

من النتائج العظيمة التي أفرزتها عمرة القضاء إسلام ثلاثة من خيرة فتيان قريشٍ وأشرافها ، فقد أسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، القائد المظفّر الذي لم يهزم في معركة طيلة حياته ، وأسلم عمرو بن العاص داهية العرب وخيرة فرسانها ، وأسلم معهما أيضاً عثمان بن طلحة حارس الكعبة المشرّفة ، فكان ذلك الحدث يوم فرح للمسلمين .

وقد هيّأ الله تعالى أسباب إسلام هؤلاء الثلاثة مبكّراً ، فبعد غزوة الأحزاب جمع عمرو بن العاص رضي الله عنه عدداً من أصحابه ، وأشار عليهم بالرحيل إلى النجاشي حتى يروا ما يؤول إليه أمر المسلمين ، فإن انتصروا على قريشٍ  عاشوا في الحبشة ما بقي من عمرهم ، وإن هزمتهم قريش عادوا إلى بلادهم ، فاستحسن أصحابه رأيه ، فتجهّزوا للرحيل ولم ينسوا هداياهم إلى ملك الحبشة .

وبينما هم في الغربة إذ قدم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي يسأل عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه ، فرأى عمرو بن العاص رضي الله عنه أنها فرصة سانحة للقضاء عليه ، فدخل على النجاشي وسأله أن يمكّنه من قتل ابن أمية ، فغضب الملك غضباً شديداً وضرب ابن العاص في أنفه حتى كاد أن يكسره ، فقال له : ” أيها الملك ، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه ” ، فأجابه الملك : ” أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ؟ ” ، فتعجّب عمرو رضي الله عنه وقال : ” أيها الملك ، أكذاك هو ؟ ” ، فقال له : ” ويحك يا عمرو ، أطعني واتّبعه ؛ فإنه والله لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ” ، عندها شرح الله صدره بالإسلام ، وطلب من النجاشي أن يبايعه على الإسلام ، فبايعه .

إقرأ أيضا:فوائد من فتح مكة

وكتم عمرو بن العاص رضي الله عنه خبر إسلامه عن أصحابه ، وعاد إلى مكّة ، حتى رجع النبي – صلى الله عليه وسلم – من عمرة القضاء ، فخرج رضي الله عنه يريد اللحاق بالنبي عليه الصلاة والسلام وإعلان إسلامه ، وفي طريقه لقي خالد بن الوليد و عثمان بن طلحة رضي الله عنهم واتفقوا على السير سويّاً ، وقد عبّر خالد عن قناعته بالإسلام قائلاً : ” والله لقد استقام المنسم – يعني تبيّن الطريق – ، وإن الرجل لنبي ، أذهبُ والله أسلم ، فحتى متى ؟ ” .

وتسامع الناس في المدينة بقدوم هذا الركب المبارك مسلماً ، فأسرعوا بإخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فاستقبلهم ورحّب بهم ، وهنّأهم على الهداية إلى الحق ، وبايعهم على الإسلام ، رواه أحمد .

ولما جاء دور عمرو بن العاص رضي الله عنه للمبايعة تردّد وقبض يده ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( مالك يا عمرو ؟ ) ،  فقال له : ” أردت أن أشترط ” ، فقال : ( تشترط بماذا ؟ ) ، فقال عمرو : ” أن يُغفر لي ” ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : ( أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟ ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟ ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ) رواه مسلم .

سرية غالب بن عبدالله إلى الكديد

بعث رسول الله –  صلى الله عليه وسلم – غالب بن عبد الله الكلبي رضي الله عنه للإغارة على بني ملوِّح في ” الكديد ” ، فانطلق رضي الله عنه ومعه بضعة عشر رجلاً ، وفي الطريق لقي المسلمون الحارث بن مالك الليثي فأمسكوا به واقتادوه إلى قائدهم ، فقال الحارث : ” إنما جئت لأسلم ” ، فشكّ غالب رضي الله عنه في أمره فقال له : ” إن كنت إنما جئت مسلماً فلن يضرّك رباط يوم وليلة ، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك ” ، فأوثقوا رباطه ثم جعلوا عليه حارساً ، وأوصى غالب رضي الله عنه بالحذر من الحارث وقتله إذا ظهرت منه بوادر الخيانة .

ووصلت تلك السريّة إلى ” الكديد ” وقت الغروب ، وانطلق جندب بن مكيث رضي الله عنه يستطلع المكان ، فرآه أحد المشركين وظنّ أنه إحدى الحيوانات ـ فرماه بسهم ، فلم يتحرّك رضي الله عنه حتى لا يكشف أمر أصحابه ، ونزع السهم من جسده ، فرماه المشرك بسهم آخر فأصاب منكبه ، ولكنّه رضي الله عنه احتمل ذلك كلّه ، حتى قال المشرك لمن كان معه : ” والله لقد خالطه سهماي ، ولو كان دابة لتحرّك ” ، فتركه ومضى .

وعندما اشتدّت ظلمة الليل أغار المسلمون على أعدائهم ، فقتلوا خلقاً كثيراً وغنموا منهم ، ثم عادوا ليأخذوا الحارث بن مالك الليثي وحارسه ، وفي تلك الأثناء انطلقت صرخات الاستغاثة ، وامتلأ المكان بقوّات عظيمة لا قبل للمسلمين بها ، واشتدّت المطاردة بين الفريقين ، وعندما اجتاز المسلمون بطن الوادي أرسل الله سيلاً عظيماً قطع الطريق على المشركين فلم يتمكّنوا من اللحاق بهم ، وعادت السريّة مكلّلة بالنصر إلى المدينة سالمة غانمة ، والقصّة رواها الإمام أحمد في مسنده .

لقد جاءت تلك الأحداث لتجني ثمار الحاضر وتحمل بشائر المستقبل ، فالغارة التي قام بها المسلمون أسهمت في بسط هيبتهم وتوطيد مكانتهم عند القبائل العربية ، وإسلام قائدين عظيمين من أمثال عمرو بن العاص و خالد بن الوليد رضي الله عنهما كان مكسباً عظيماً للمسلمين خصوصاً بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فكان لهما الأثر البالغ في حركة الفتوحات واتساع رقعة الدولة الإسلاميّة بعد ذلك .

السابق
سرية ذات السلاسل
التالي
نبع الماء من بين الأصابع الشريفة