يحدثك الملحد عن كثرة الاختلافات ليدلل على غموض الأصل، ويتشبث بالفلسفة التي ما اجتمع أهلها على شيء ولو يسيراً! وهذا تناقض!
د/ حسام الدين حامد
بقدر ما ظلمنا النعام اغترَّ بعضنا بمُلْحِدة الزمان فظلمهم، وطالما حدثونا – وكذبوا – أن النعام يدفن رأسه في الرمال ظنّاً منه أنه طالما لا يرى صائدَه فإن صائدَه لا يراه.
أيها السادة! النعام لا يفعل ذلك!! لكنَّ هناك من يعيش في عالمٍ من نسج خياله، لا.. بل دفنَ رأسه في أوحاله، فإن تكلم عن الوجود والسببية دَفَنَ رأسه في وحلٍ ضيق المسام كثير الأسقام، فإن أراد أن يَحي حي عن بينةٍ من أمره في كل ما أراد، وسار رافعاً رأسه معملاً فكره.. فبينما هو يسير إذ سأله سائلٌ عن مبدأ الأمر وآخره، فاستأذنه ثم دفن رأسه، وأتانا بما «يصمُّ السميع ويعمي البصير، ويُسْأَل من مثله العافية»!!
أيها السادة! عن الملحد أحدثكم.. الملحد يفعل ذلك!! ويشقى الإنسان إن زاد اسمه عن حقيقته، فمن ظنّ في الملحدين غير ذلك فقد ظلمهم، علَّك تقول: رويدك رويدك!! فما برهان هذا الذمّ! قلتُ: خلاك ذمٌّ!!
قال: ففصِّل ما أوجزت!
قلتُ: الناس أشكالٌ وطبائع، وأخلاق تكتسب وأخرى جِبِلِّية، وعلى قدر اختلاف الناس في صفاتهم يختلفون في مواجهة المصائب المتتالية، بل يختلف سلوك الإنسان ذاته بين مشكلةٍ وأختها، فواحدةٌ تحل بحقها، وأخرى تُرْجَى إلى حين لعلّها تقضي نحبَها، وأخرى معلقة، فمن الناس من يحاول إقناع نفسه بأنه لا مشكلة، وهذه المحاولات هي الحيل الدفاعية، أليس كذلك يا أخي؟!
إقرأ أيضا:لماذا حرم الله الزنا ؟قال: ويح الشيطان!! أشترط عليك شرطاً عزمت عليك ألا تنقضه، أقسمتُ عليك أن تدع المقدمات وتلج إلى الباب، علنا نبلغ المنزل، وعن سؤالك أقول: بلى هو كذلك!
قلتُ ململماً شتات الحوار: لك ذلك! فالملحد رأى نفسه في مشكلة!
كيف!؟
قلتُ: يتبع منهجاً لا يُثْبِتُه، وإن تحدث لا يُنْصِفُه، وإن جادل لا يَنْصُرُه، وإن انفرد لا يركن إليه! فماذا فعل؟! أسَرَّ في نفسه ألا يدخلنها اليوم عليكم عاقلٌ فضلاً عن مجادل، فعاش بمبادئ غير المبادئ وبنى لنفسه عالماً غير العالم! لا يعرفه إلا هو ومن على شاكلته! وأكثر من ذلك، صار هو نفسه يعيش في هذا العالم المتوهم إن كان الأمر متعلقاً بإلحاده.. فإن كان الأمر متعلقاً بعمله أو بماله أو بأهله، أو بأيِّ شيءٍ غير إلحاده، ترك عالمه الوحليّ ذاك، وعاد رافعاً رأسه معملاً فكره؛ كأنه من الناس والناس منه، فإن أثير ما يقترب من نقض الإلحاد ولو من بعيد، عاد إلى دفن الرأس في الوحل ضيق المسام كثير الأسقام!
قال: الكلام جميل، فقل لي أين الدليل قبل أن ينفد صبري الجميل؟
قلت: الدليل يطول، وبالمثال يتضح المقال، فسأحدثك حتى ترضى!
قال: ويح الشيطان!! أنساني أن أسألك عن اسم الحيلة الدفاعية التي يعيش صاحبها في عالمٍ غير العالم، حتى يظن أنّه ليس ثَمَّ مشكلة!
إقرأ أيضا:على طريق الإلحاد.. هل تنتحر الفضيلة؟قلت: سمِّها ما شئت! الأحلام المَرَضية في اليقظة، الهروب المَرَضي إلى الخيال، وأفضل من ذلك «حيلةٌ استنكف النعام عن فعلها»!
قال: فهات ما عندك.
تناقض الملحدين.. أمثلة مختلفة
المثال الأول: الملحد في مختبره أو معمله:
المشهد الأول من عالم الأحياء:
هذا الملحد دأب على دراسة الكائن المسبب لمرضٍ من الأمراض، وهذا المرض المعروف عنه أن سببه غير معروف حتى الآن “Idiopathic”، ولكن الملحد يعمل واصلاً ليله بنهاره لأنه يعلم أن هذه الأعراض أعراض عدوى بكتيرية في الغالب، وأن وسيلة انتشار المرض توحي بأنه نوعٌ من البكتريا التي تنتشر عن طريق الطعام مثلاً، وذلك يجعله في همٍّ دائم «متى سأصل إلى الكائن المسبب لهذا المرض»؟!
المشهد الثاني من عالم الأوحال:
هذا الملحد بعينه وَقَفَه شخصٌ مسلمٌ، سأله عن رأيه في السببية كوسيلةٍ لإثبات وجود الخالق، فحكّ الملحد لَحْيَيه، وقال – وليته سكت – : «لعل الكون هو الشيء الوحيد الذي لا سبب له»!
ولم ذا؟! لماذا لم يخطر في قلب الملحد ولا لمع أمام عينيه خاطرٌ – وهو في معمله – ليقول في نفسه «لعل هذا المرض هو الشيء الوحيد الذي لا سبب له»؟! لماذا وهو في المعمل لا يدفن رأسه في الوحل كما أجاب المسلم؟!
إقرأ أيضا:أنصبة ميراث المرأة.. هضمٌ لحقوقها أم إنصافٌ لأنوثتها؟!المثال الثاني: الملحد في متجره:
المشهد الأول من عالم الحياء:
التاجر الذكي هو الذي يختار المنهج الذي يكون به فائزاً على أية حال، هذه هي الحكمة التي يزن بها الملحد صفقاته قبل البتِّ في الإقدام عليها من عدمه!
المشهد الثاني من عالم الأوحال:
هذا التاجر نفسه أمامه طريقان: «الإيمان: إن صح فاز وربح وإن أخطأ خسر» أو «الإلحاد: إن صح فلا بأس وإن أخطأ خسر واشتد عليه البأس»، ولو كانت المقارنة هكذا مجردةً لأمكن للعاقل أن يجزم باختيار الإيمان، فكيف والإلحاد عورةٌ فكرية؟! فكيف والإيمان نورٌ وبرهان؟!! فكيف والإيمان خيرٌ كله والإلحاد لا خير فيه؟! ولكن هذا التاجر اختار الإلحاد.
ولا تعقيب..!
المثال الثالث: الملحد وسط تلامذته:
المشهد الأول من عالم الأحياء:
وقف رافعاً رأسه معملاً فكره، وقال: «وهكذا أيها الأعزاء! فإن من القواعد التي تعينك في مسايرة الحياة واتخاذ القرارات أن اليقين لا ينتقل عنه للشك، وكلّه بالعقل، معيار الحكم عندنا هو العقل وحسب!»… كانت هذه آخر الكلمات قبل أن يدع طلبته ويلملم أوراقه ليخرج مارّاً بالشارع إلى بيته!
المشهد الثاني من عالم الأوحال:
بينا هو في الشارع مرّ به صديقٌ من أيام الصبا، فسأله بعد التحية والمقدمات: «أما آن لك أن ترجع إلى سابق عهدك، أعني ترجع كما كنت قبل أن تلحد ويهجرك كل من عرف بشأن إلحادك!»، أجاب: «لا! لم يئن بعد!» وابتسم ابتسامةً حاول أن يجمع فيها ما يمكن جمعه من ثقةٍ في ابتسامة، قال المسلم: «فحدثني هل ما زلت على إنكارك لوجود الله، أم أنك وصلت لمنحدرٍ جديد؟!!»، فأجاب: «لا! أنا الآن لا أثبت ولا أنفي؛ لأني بتُّ أشك في قدرة العقل على إثبات وجود الإله والبرهنة عليه!»
فأنت ترى الملحد كان على يقينٍ من أمره في دينه، والآن صار «لا يثبت ولا ينفي»؛ أي: صار «متوقفاً» بعد أن كان على يقينٍ أو على الأقل على ظنٍّ غالب، فلمَ ترك اليقين إلى المحال وهو الإلحاد الذي ينفي وجود الإله – ولا يمكن أن يثبت ذلك – ثم إلى الشك وهو اللاأدرية؟! ولمَ تخلّى عن قدرة العقل مع أنّه الزاعم أنّ «كله بالعقل»؟!
وهكذا…
هكذا يمتاز الملحد بالفصام بين القول والفعل فهو صوفيٌّ عند الشدائد، راديكاليٌ عند اختيار الزوجة، متديّنٌ حين تواجهه معضلات الأخلاق.. ولكنه بالنهاية ملحد! وهذا تناقض! يرفض إثبات موافقة القرآن لحقائق العلم بحجة تغير العلم، ولكنه يلحد بسبب مخالفة نظريات العلم للقرآن! وهذا تناقض!
يكفر بالله لوجود الشر في العالم ثم يعظِّم العقل البشري! وهذا تناقض! يرفض رهان باسكال لأنه لم يبني «إيمانه» على شك، ولكنه لا يمانع أن يكفر بالله تقليداً! وهذا تناقض!. يرفض الحديث المتواتر إذ يسرده المتدين، ويرضى بخبر الآحاد يلقيه إليه «الباحث» وفق «شروطه»! وهذا تناقض! يدعي التمسك بعلوم وليدة كالجينالوجي في إثبات الأنساب، ولكنه يكتفي بالقسم بشرف أمِّه على نسبته لأبيه! وهذا تناقض!
يحدثك عن كثرة الاختلافات ليدلل على غموض الأصل، ويتشبث بالفلسفة التي ما اجتمع أهلها على شيء ولو يسيراً! وهذا تناقض! يأخذ على المؤمن يقينه بما تعلم من آبائه، ويتعصب لمقالةٍ في مجلةٍ لا يعلم عن قواعد النشر فيها شيئاً! وهذا تناقض! يدعي إمكانية عدم وجوده شخصياً مخالفةً للبديهة، ولكنه قد يفتعل معركةً من أجل بضعة جنيهاتٍ وضعها ولم يجدها! وهذا تناقض!