من جواهر الإسلام

الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (27)

هذا الحال قد يجعل المواطن في بلاد الخوف في حيرة؛ فهو إذا التزم الصدق قد يصبح منبوذًا في مجتمعه –الصغير والكبير- أو شاذًا، فيُطرد أو يُلعن، مثله مثل العملة الجيدة التي تطردها العملة الرديئة، فهل يختار اعتزال مثل هذا المجتمع أم يهجره إذا أراد أن يحافظ على إيمانه وصدقه؟ أم يصبو إلى ما يدعونه إليه، من الكذب والتلون والمداهنة، فيخسر نفسه؟

(مقتطف من المقال)

د. حازم علي ماهر* (تنشر مقالات السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

كونوا مع الصادقين.. ولكن! 

الأخلاق

الحقيقة أن هناك خلل كبير في تصور مفهوم الصادقين الذين تنبغي مصاحبتهم، وفي كيفية هذه المصاحبة…

نستكمل اليوم بحثنا سويًا عن الطريق إلى ترسيخ خُلق الصدق في عالمنا المعاصر، وقد انتهى المقال السابق إلى أهمية الاستعصام بالصدق، حتى في بلاد الخوف، إذ لا نجاة للمغروسين فيها إلا بالتزام الصدق، لا بالوقوع في هاوية الكذب والنفاق والرياء كما يعتقد الكثيرون منهم الآن للأسف الشديد، فيهرولون للركون إلى الذين ظلموا أنفسهم بالكذب والطغيان، طمعًا في مصاحبتهم والتنعم بسلطانهم وعطاءاتهم الزائلة المذلة، وبالتالي يشاركونهم الإثم ويحجزون معهم مقاعد متقدمة في قعر جهنم!

إقرأ أيضا:ابن رشد.. قنديلُ الأندلس الذي أنار أوروبا

وهذا المسار المشين الذي يختاره كثير من الناس للتعامل مع تفشي الكذب في مجتمعاتنا هو عكس الاتجاه تمامًا الذي أمرنا المولى عز وجل بالسير فيه للتحلي بالصدق وملازمته، والذي يتجلى في مصاحبة الصادقين لا الكاذبين، مثلما ورد في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة:118،119)، والذي أعقب قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ولكنهم عادوا فاعترفوا بذنبهم وتحملوا مسئولية تقصيرهم، دون تقديم أعذار كاذبة واهية، فصدقوا في نيتهم وفي قولهم، حياءً من الله ورسوله، فإذا بالله عز وجل يقبل توبتهم –بعد حين- وينزل فيهم قرآنًا يتلى.

مستنقع الأخلاق المذمومة…

والأمر الوارد في تلك الآية الكريمة بصحبة الصادقين والاقتداء بصدقهم موجه لعموم المؤمنين: (ولهذا قال “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين” أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا)(تفسير ابن كثير، ط العلمية، ج4، ص204). وهو يندرج ضمن المنظومة الأخلاقية الإسلامية التي تخير الإنسان بين الالتزام بالأخلاق الحسنة وملازمة أهلها، في الدنيا ثم في جنة الآخرة، أو السقوط في مستنقع الأخلاق المذمومة وملازمة أصحابها، فيخسر معهم الدنيا ثم يصاحبهم في جحيم الآخرة: “فعندك ملك وشيطان، فانظر أيهما تصاحب؛ ودين ودنيا، فانظر أيهما تصاحب؛ وعقل وهوى، فانظر أيهما تصاحب؛ وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص، وكذا القول في كل الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين، فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة. ألا ترى أن الصِدِّيق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا، وفي القبر، وفي القيامة، وفي الجنة، وأن كلبًا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا، وفي الآخرة، ولهذا السر قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة: 119) (تفسير الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، ج1، ص234-235).

إقرأ أيضا:الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

والحقيقة أن هناك خلل كبير في تصور مفهوم الصادقين الذين تنبغي مصاحبتهم، وفي كيفية هذه المصاحبة، وهو ما يمكن تسميته بـ “التصور القبلي” لهذين المفهومين، حيث يفهمهما البعض على النحو الذي يفهم به بعض القبليين طبيعة العلاقة فيما بينهم، حيث التعصب لأبناء قبيلتهم، بالحق وبالباطل، في مواجهة الآخرين، متبنين –عمليًا- مقولة: “معي أو ضدي”، تلك المقولة المهلكة التي رفعها مستبدو العالم الكذابون شعارًا لهم، وتبناها بعض ضحاياهم كذلك!

والصحيح هو أن الأمر بمصاحبة أهل الصدق هو في حقيقته أمر بملازمة الصدق نفسه وبالتحلي به؛ فالمصاحبة لا تأتي بناء على انتماء قبلي أو قطري أو أسري أو تنظيمي أو عرقي…، بل بحسب تحلي المراد مصاحبتهم بالصدق، لأن العبرة هي بالتزام القيم مجردة، بغض النظر عن أشخاص معتنقيها؛ فقيمة العدل ونصرة المظلوم –على سبيل المثال- هي التي دفعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى القول بأنه كان لن يتأخر عن الاستجابة لدعوة الانضمام إلى حلف الفضول إذا ما كان قد دعي إليه، رغم أن دعاته والقائمين عليه كانوا من المشركين، لكنهم كانوا صادقين في سعيهم إلى مقاومة ظلم الأقوياء للضعفاء.

وهذا الفهم من شأنه أن يفتح الباب للتعاون بين الصادقين من الناس كافة فيما اتفقت عليه فطرهم ومصالحهم الكلية، حتى لو اختلفت انتماءاتهم، وهو الأمر الذي قد يسهم كذلك في التخلص من العصبية للأشخاص، فضلا عن دعمه لأهل الصدق في محنهم المتراكمة، والتخفيف من الثمن الذي يدفعونه نتيجة تمسكهم بهذا الخيار المثالي في مواجهة الكذابين، ولاسيما فيما يتعلق بذوي السلطان منهم.

إقرأ أيضا:الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

 والواقع أنه بالإضافة إلى ضرورة تصحيح هذا التصور القبلي للمقصود بالصادقين ولمصاحبتهم، ينبغي كذلك تصحيح تصور آخر للفهم الملائكي للمقصود بالصادقين، إذ يتصور البعض أن الصادقين معصومون بالضرورة، لا يصدر منهم ذنب مطلقًا، كبر أم صغر، ولا تخالف ظواهرهم بواطنهم على الإطلاق، وأنهم دائما ما ترى على وجوههم تعبيرات الصرامة والغضب، وكأنهم مثل الملائكة الذين يحرسون نار الآخرة؛ “غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (التحريم:6).

خيرُ الخطائين!

هذا الفهم يناقض تمامًا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، من اختلاف البشر عن الملائكة، وأن كل بني آدم خطاء، ولكن الصادقين التوابين هم خير الخطائين، لأنهم لا يجهرون بمعاصيهم، ولا يصرون عليها، بل يتوبون توبة صادقة -من قريب- فيقبل الله توبتهم، حتى لو بلغت تلك المعاصي حد التخلف عن خير الخلق في إحدى غزواته ضد المشركين دون عذر مقبول، مثل الثلاثة الذين خلفوا التي سبقت الإشارة إليهم!

وتنبع أهمية التخلص من هذا الفهم المتهافت في إسهامها في توسيع دائرة الثقة بين الصادقين وعدم حصرها في طائفة تُظَن فيها العصمة، كما أنه سيساعد في إحباط الإحباط المصاحب لاكتشاف بشرية الصادقين وارتكابهم لأخطاء مخالفة لما يدعون إليه، وما يؤدي إليه من سقوطهم المتعجل من نظر من يثقون فيهم، والذين قد يذهبون إلى الشك فيما كانوا يدعونهم إليه من قيم ومبادئ، فتهتز كذلك ثقة الصادقين في أنفسهم نتيجة افتضاح بشريتهم!

صاحبوا الصادقين حتى تتحلوا بالصدق وتثبتوا عليه، ولكن احذروا من العصبية ومن اعتقاد العصمة فيمن تصحبون!

السابق
الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (26)
التالي
الأم.. صانعة الأئمة والقادة والعظماء