“هل كان ذكر مراحل تطور الجنين في القرآن الكريم أقدم ما عرف البشر في كتب دياناتهم السماوية، أم سبقتهم الديانات الأخرى لذلك؟، وما مدى تأثر العلماء المتخصصين بدقة تلك المراحل التي وردت في القرآن؟… أسئلة تحمل إجاباتها سطور المقال التالي”
إعداد/ نهال محمود مهدي
اطلعت في إحدى الصحف على قصة الشاب “جيرمي”.. وهي تجربة لشاب أمريكي تحول من الإلحاد إلى الإسلام..
بداية تقول تفاصيل القصة على لسان جيرمي: “ولدت مسيحياً، وفي الثامنة عشرة من عمري صرتُ ملحداً، بسبب بعض الاعتراضات العقلانية على فكرة الله في المسيحية، بقيت ملحداً لمدة عشر سنوات، ظللت خلالها أرفض الحديث عن الأديان، سماوية كانت أو وضعية، وذات يوم قرأت عن مؤتمر علمي يشرح تفاصيل اكتشاف مراحل تطور الجنين داخل رحم أمه، وكنت أدرس في تلك الفترة بكلية الطب، فذهبت للاستفادة من المشاركين في المؤتمر وحضرت مناقشات عديدة حتى طلب أحد الحاضرين الكلمة وكان شاباً مهندماً جداً وفاجأني وفاجأ الجميع بأن تحدث عن شرح القرآن الكريم لمراحل تطور الجنين في بطن أمه، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وهنا رنت كلمات الرجل في أذني.”
يتابع جيرمي: “عقب انصراف الرجل خرجت وراءه وسألته عن تفاصيل ما قال، فمنحني نسخة مترجمة من القرآن ومعه نسخة من بحث أعده عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. عندما قرأت عن الإعجاز العلمي في القرآن أخذت تلك المعجزات بلبي وأسرتني ودفعتني لكي أعتنق الإسلام، وكما يضع كل مؤلف توقيعه على كتابه، في رأيي آيات الإعجاز العلمي هي بمنزلة توقيع الله ودليل على أن القرآن الكريم من الله وليس من محمد، قرأت تفسيراً للقرآن في سن الثامنة والعشرين فوجدت فيه إجابات متماسكة ومنطقية لأسئلتي، وهذا الأمر دفعني للإيمان بالله عن طريق الإسلام من خلال قراءتي للقرآن، وهكذا أصبحت مسلماً وغيّرت اسمي إلى صالح، تيمناً باسم نبي الله صالح”[i].
إقرأ أيضا:ويضرب الله الأمثال.. مثال الميزان في القرآن ج 4انتهت قصة “جيرمي” أو “صالح” الذي أَعمَل عقله وقلبه معا باحثا عن الحقيقة حتى اهتدى إليها، وبرغم ما نعلمه من إعجاز قرآني علمي واضح في مسألة “مراحل خلق الأجنة وتطورها” إلا أن هناك من لا يزال يشكك في أسبقية عرض كتاب الله تعالى لتلك القضية زاعما أن ذكرها بداية كان في الكتب السماوية القديمة-التوراة والإنجيل- ومنها نَقل محمد صلى الله عليه وسلم، مُدعيا الوحي من عند الله.
تدرج مراحل تطور الجنين منذ زمن التوراة
ومن تلك الادعاءات ما أورده د.عبد الرحيم الشريف في إحدى دراساته[ii] قائلا:” وقعت على موقع إسلامي يسمي نفسه باسم “الإعجاز العلمي في القرآن” وكان الموقع يعرض المعجزة العلمية في قوله تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ .ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ” (المؤمنون:12 ـ14).
ومن أجل التفسير العلمي الأكاديمي، الذي لا يقبل الشك، استقدم الموقع (أحد أكبر أساتذة علم الأجنة من أمريكا) والذي تقول الرواية، أنه “ذُهل” عندما علم أن هذه الحقائق العلمية سبق بها القرآن الكريم، وكان التفسير العلمي من وجهة نظر العالم الشهير أن النص القرآني -الذي حمله الفقهاء أكثر مما أراد الله نفسه- لم يورد أية معلومة جديدة، بل خاطب الناس بالمعلومات المتوافرة في عصرهم، ليبين لهم قدرة الله، وليس ليمنحهم معلومات في علم الأجنة، فمعلومة أن الجنين يوجد كاملا في نطفة الرجل، معلومة معروفة منذ زمن التوراة، وقد وردت في سفر أيوب على النحو التالي: ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن، كسوتني جلداً ولحما، فنسجتني بعظام وعصب، سفر أيوب 10/12″.
إقرأ أيضا:عندما تموج الأرض بالحياة.. بكلمتين في كتاب الله!وللشبهة السابقة نقد من عدة أوجه:
الوجه الأول:
بيان نظرة الكتاب المقدس لليهود والنصارى إلى أصل الجنين:
في الزمن الذي جُمِعت فيه أسفار العهد القديم، كانت نظرية “الجنين القزم” أقوى النظريات الفلسفية حول أصل ونشوء الجنين، وهي تزعم أن الإنسان حينئذٍ يكون قزماً كامل الخِلقة في نطفة الرجل ولكنه ينمو باضطراد في رحم المرأة كما تنمو الشجرة الصغيرة إلى أن تكبر.
لكن الفلاسفة تنازَعوا في شأنها وانقسموا إلى مذهبين:
هل الإنسان يوجد كاملاً في الحيوان المنوي للرجل؟ أم كاملاً في دم حيض المرأة يشتد عُودُه بعد أن ينعقد بسبب ماء الرجل؟.
فبحسب الأول: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في الحيوان المنوي، ولكن الجنين صغير الحجم، لا ينمو إلا في تربة خصبة (الرحم).
أما الثاني: الإنسان يكون كامل الأعضاء قزماً في دم الحيض، لكنه ينتظر المني ليقوم بمهمة عقدِ الجنين وتغليظ قوامه، كما تفعل الإنفحة بالحليب (اللبن)، فتعقده وتحوله إلى جبن.. فليس للمني دَورٌ سوى أنه ساعد كمساعدة الإنفحة للحليب (اللبن) في صنع الجبن (التخثير كالجبن).
إقرأ أيضا:ويضرب الله الأمثال.. أمثلة الجبال في القرآن ج5وعند البحث في كتب التاريخ، نجد أنه لم يقل أحد من علماء الغرب الموثوق بعلمهم، إن الجنين ناتج عن التقاء الحيوان المنوي للرجل مع بويضة المرأة قبل سنة 1775م. وتم تأكيد هذه النظرية في بداية القرن العشرين عند اكتشاف الكروموسومات.
بينما القرآن الكريم سبق إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة) بين نطفة الرجل، وبويضة المرأة. قال تعالى: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ” نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا” (الإنسان:2). وبيَّن أنه ينتقل من طَور إلى طَور: “مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا”، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا” (نوح: 13،14)، لا جنيناً قزماً.
مصداقاً لقوله تعالى في سورة الحج: “يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا” (الحج:5).
وقد كانت نظرية الجنين القزم ـ بشقيهاـ راسخة كأنها حقيقة ثابتة لا جدال فيها، لكن ذلك لم يمنع علماء المسلمين الكرام من تقديم النص القرآني عليها، ومنهم:
– ابن حجر في مقدمة شرحه لكتاب القدر في صحيح البخاري: “وزعم كثير من أهل التشريح: أن مني الرجل لا أثر له في الولد، إلا في عقده. وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطِلُ ذلك “.
– وابن القيم: “الجنين يُخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافاً لمن يزعم من الطبائعيين، أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده”.
– والقرطبي: ” بَيَّنَ الله تعالى في قوله: “إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ” (الحجرات:13) أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى.. وقد ذهب قوم من الأوائل، إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح: أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة؛ لهذه الآية، فإنها نصٌّ لا يحتمل التأويل “.
ومن هنا يتبين أن علماء الإسلام يُقدِّمون الثابت القطعي من النصوص على النظرية العلمية الظنية –رغم قوتها في ذلك الوقت-.. وفي ذلك درس بليغ لمن يتصدى للبحث في الإعجاز العلمي، فالأولوية للنص القرآني القطعي الذي سيثبت العلم صحته يقينا ولو بعد حين.
ومن المخالفات العلمية المنهجية في موقع الإنترنت التنصيري الذي أثار تلك الشبهة: عدم الرد العلمي لما ورد في المحاضرة الشهيرة لعالم الأجنة (كيث مور) ومنه:
“لم تضِف في العصور الوسطى معلومات ذات قيمة في مجال تخلق الجنين، ومع ذلك فقد سجل القرآن الكريم في القرن السابع ـوهو الكتاب المقدس عند المسلمينـ أن الجنين البشري يتخلق من أخلاط تركيبية [أمشاج] من الذكر والأنثى..
وباستخدام مجهر أكثر تطوراً اكتشف (هام) Hamm و(ليفنهوك) Leeuwenhoek الحيوان المنوي للإنسان للمرة الأولى في التاريخ عام 1677م ولكنهما لم يدركا دوره الحقيقي في الإنجاب، وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً لينمو في الرحم بلا أطوار تخليق [ الجنين القزم]، وظل الأمر محل أخذ ورد حتى عام 1775م عندما انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل ابتداءً، واستقرت نهائياً حقيقة التخليق في أطوار. وأكدت تجارب (إسبالانزاني) Spallanzani على الكلاب على أهمية الحوينات المنوية في عملية التخليق..
ثم كان عام 1827م ـ بعد حوالي 150 سنة من اكتشاف الحيوان المنوي ـ حينما عاينَ (فون بير) von Baer البويضة في حويصلة مبيض إحدى الكلاب، وأخيرا وفي عام 1839م تأكد (شليدن) Schleiden و(شوان) Schwann مِن تكوُّن الجسم البشري من وحدات بنائية أساسية حية ونواتجها، وسميت تلك الوحدات بالخلايا، وأصبح من اليسير لاحقاً تفهُّم حقيقة التخلق في أطوار من خلية مخصبة ناتجة عن الاتحاد بين الحوين المنوي والبويضة..
وفي القرن العشرين تم التحقق نهائياً من احتواء الخلية البشرية الأولى Zygot على العدد الكامل من تلك الأخلاط الوراثية من الذكر ومن الأنثى وعُرِفَ عددها.
وهذا ما أكده د. عدنان الشريف بقوله: “لقد كتب أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد ـ وهو الذي ظلت كتبه وآراؤه مقدسة في الأوساط العلمية حتى القرن السابع عشر ـ أن الجنين يتخلق من اتحاد المني مع دم الحيض.. و إذا استثنينا علماء المسلمين الذين شرَحوا تكون الجنين، من خلال شرحهم الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تطرقت إلى هذا العلم يكفي لنقده التذكير بقوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ” (البقرة: 222).