الأخلاق الحميدة صفة لازمة للرسول
أرسل الله -سبحانه- نبيّه محمّداً -عليه الصلاة والسلام- إلى الناس كافّةً برسالة الإسلام، وأراد أن تكون رسالته خاتمة الرسالات السماويّة، فبلّغ الرّسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة، وأنار لها الطريق المستقيم، وقد شكّلتْ حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن أنموذج وأفضل قدوة؛ فكان مثالاً يُحتذى في كلّ ميادين الحياة، وكانت الأخلاق الرفيعة والقيم العالية هدفاً مقصوداً لبعثته، حيث قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ).[١] وقد برزتْ أخلاق النبي -عليه السلام- في معاملاته مع النّاس؛ فكانت سبباً في إقبال كثير من الناس على رسالة الإسلام، ومحبتهم له، فما هي أهمّ أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم؟
تعريف الأخلاق الإسلامية
- الأخلاق لغةً: من الجذر اللغوي خَلَقَ، الخاء واللام والقاف، ومن دلالاته الخُلُق وهو السجيّة؛ لأنّ صاحبها قُدِّر على هذا الخُلق، ويُقال: إنّ فلاناً خليقٌ بكذا، أي يقدّرُ فيه ذلك،[٢] ويرى ابن منظور أنّ الخُلق هو الدّين والطبع والسجيّة، وقد امتدح الله -عز وجل- نبيّه محمّداً -عليه الصلاة والسلام- في القرآن الكريم؛ فقال فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).[٣][٤]
- الأخلاق اصطلاحاً: يذهب العلماء في تعريفهم للأخلاق حسب وجهة النظر الإسلامية إلى عدّة تعريفاتٍ، فقد عرّفها بعض الباحثين المعاصرين بأنّها مجموعة من القواعد النّاظمة للسلوك الإنساني والمبادئ التي يحدّدها الوحي لتنظيم حياة الناس وترتيب علاقاتهم بغيرهم على شكلٍ يحقّق الغاية المرجوّة من وجودهم في هذا الكون بالوجه الأكمل.[٥] وقد دعتْ الشريعة الإسلامية إلى ضرورة الالتزام بالأخلاق الحميدة والقيم الرفيعة والتَمثُّل بها، كما حثّ على حفظها وصيانتها، وتأكيداً على أهميتها فقد نفى الإسلام كمال الإيمان عمّن يُخالف الامتثال لتلك الأخلاق أويُناقضها.[٦]
أخلاق الرسول -عليه السلام-
إنّ حصر أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقال أو حتى كتاب أمرٌ في غاية الصعوبة، ولكن هذه وقفات عاجلة في رحاب أخلاقه الفيّاضة بالدّروس والعبر:[٧]
- كرم الرسول عليه السلام: شكّل كرم النبي -عليه الصلاة والسلام- لوناً جديداً لم يألفه العرب، إذ كان كرمه في سبيل الله وابتغاء مرضاته -سبحانه-، وفي مؤازرة ونصرة الدعوة، فقد كان يعطي أحوج ما عنده إليه، وما سئل عن شيء -عليه السلام- إلا أعطاه، وكان يستحي أن يردّ من يسأله، ويرجعه خالي الوفاض، فقد أتاه رجلاً فسأله مالاً، فأعطاه غنماً ملأتْ ما بين جبلين، فرجع إلى قومه، وقال: (يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة).[٨]
- صدق الرسول عليه السلام: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- صادقاً مع ربه -عز وجل-، ومع نفسه، ومع الناس كلّهم، برّهم وفاجرهم، فهو الصادق الأمين في الجاهلية والإسلام، أجمع من عرفه وخالطه أنّه صادق أمين منذ صباه، لم يسمعوا منه كذبَة واحدة، ولم يشكّ أحد منهم في خبر سمعه منه، إلا ما كان من جحود قريش والمشركين حينما جاء بنبأ الدعوة ورسالة الإسلام؛ فكذّبوه ظلماً وعتوّاً.
- صبر الرسول عليه السلام: كان النبي الكريم أصبر الناس على الأذى، وكان يناله من الأذى ما ينال أصحابه في بداية البعثة في مكة المكرمة؛ فلا يصدّه ذلك عن دعوة الحقّ شيئاً، بل يزداد ثباتاً وجلداً وصبراً، فكان الصبر درعه المتين، يتحصّن به مستذكراً دعوة المولى -عز وجلّ- له بالتزام هذا الخلق العظيم، حيث قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)،[٩] وكلمّا احتشدتْ عليه الخطوب والكروب تسلّح بقول المولى -سبحانه-: (فَاصْبِرْ كَمَاصَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).[١٠]
- عدل الرسول عليه السلام: عدل النبي -صلى الله عليه وسلم- تربية إلهية، وفطرة سوية، حيث وسّع بعدله القريب والبعيد، والصديق والعدوّ، والمؤمن والكافر، بل تعدّى عدله إلى غير البشر؛ فدعا إلى حفظ حقوق البهائم والحيوانات، وفي ظلال هذا المنهج العادل عادت الحقوق إلى أصحابها، وعلم الناس ما لهم وما عليهم، فهو منهجٌ ينصر المظلوم، ويقهر الظالم الغشوم، وفي دولة الإسلام الأولى ما خاف فقير من فوات حقّ، وما طمع غني بمال غيره، ومن أعظم ما يُذكر في هذا المقام ما ذكرته كتب الصحاح من أمر تلك المرأة المخزومية التي سرقت، فاهتمّ قومها لشأنها، فكلّموا في أمرها أسامة بن زيد -رضي الله عنه- لما يعلمون من حظوته وشرف مكانته عند النبي -عليه السلام-، فغضب -صلى الله عليه وسلم- وقال: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ، ثم قامَ فخطبَ، قال: يا أيُّها الناسُ، إنَّما ضلَّ مَن كان قَبلَكم، أنهُم كانوا إذا سرَقَ الشَّريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَقَ الضَّعيفُ فيهِم أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنتَ مُحمدٍ، سَرَقَت لَقطَعَ مُحمدٌ يَدَها)،[١١] وكان يُحذّر المختصمين بين يديه من أنْ تكون قوة حجته في الكلام سبباً في إحقاق باطل، حيث قال: (إنكُم تَخْتَصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعْضَكُم ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ من بعضٍ، فمن قضَيتُ له بحَقِّ أخيهِ شيئًا بقوله، فإنما أقْطَعُ له قِطْعَةً من النارِ، فلا يأخُذها ).[١٢]
- عفو الرسول عليه السلام: كان العفو سجيّة جليّة من سجاياه -عليه السلام-، وكان عفوه دليلٌ أبلجٌ على أنّ الإسلام لا يحمل الحقد على أحد، وإنّما هو رسالة تحمل العفو والصّفح عمّن ظلم وأساء، وعندما سأله أصحابه أنْ يدعو على المشركين يوم أحد، قال: (إني لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعِثتُ رحمةً)،[١٣] وعندما جاء يوم فتح مكة، كان -عليه السلام- مستحضراً لما فعله مشركو قريش من أذى، واضطهاد، وقتل، وإبعاد للمؤمنين، لكنّه غلّب جانب العفو والغفران، وعفا عنهم جميعاً.
- شجاعة الرسول عليه السلام: كان النبي -عليه السلام- أشجع الناس، ومثلاً أعلى في ميادين الشجاعة، فقد فرّت منه جيوش الأعادي وقادتها في كثير من المواقف، وهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يصف شجاعة النبي العظيم بقوله: (كنَّا إذا احْمَرَّ البأسُ، ولقيَ القومُ القومَ، اتَّقَينا برسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فما يَكونُ منَّا أحدٌ أدنا مِنَ القومِ منهُ)،[١٤] غير أنّ شجاعة النبيّ وقوّته لم تكن يوماً في غير موضعها، تقول أم المؤمنين عاشة -رضي الله عنها-: (ما ضرب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيئًا قطُّ بيدِه، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يجاهدَ في سبيلِ اللهِ، وما نِيلَ منهُ شيء قطُّ فينتقمُ من صاحبِه، إلا أن يُنتهك شيء من محارمِ اللهِ؛ فينتقمُ للهِ عزَّ وجلَّ).[١٥]
- تواضع الرسول عليه السلام: كان تواضع رسول الله -عليه السلام- حجّة على كل متكبّر، فكان يخفض جناحه للصغير والكبير، وللقريب والبعيد، ويلين جنبه لمن يخالطهم، وكان تواضعه سبباً في خدمة أهله والرّفق به، وقد سُئلت أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- عن فعل النبي في بيته، فقالت: (كان بشرًا من البشرِ: يَفْلِي ثوبَه، و يحلبُ شاتَه، ويخدم نفسَه)،[١٦] وكان أبرز ما يظهر من تواضعه مع الضعفاء من الناس وأصحاب الحاجات، فكان إذا مرّ على الصبية الصغار سلّم عليهم، ولاطفهم بكلمة طيبة ولمسة حانية