تحدثنا في الجزء الأول من المقال عن الطرح التفاؤلي في عالم الإلحاد ، الذي قد يعد في بعض الأحيان هزلاً أكثر منه تفاؤلاً، وبموضوعية بالغة؛ تبقى الأغلبية الكاسحة من المفكرين الملحدين في الجانب الآخر، المتشائم، بل والأكثر تشاؤمًا.
مبدئيًا؛ نظر أغلب المفكرين الملحدين للحلول التي طرحها المتفائلون على أنها خداع للذات في نهاية المطاف، لاسيما وقد أبدوا اهتمامهم بالمصير الفردي للملحد، لا المصير الجماعي، أو المتعلق بالنوع، ومن ثم طالبوا بطرح حلول أخرى أكثر واقعية من الحلول التفاؤلية البديلة للبقاء على الحياة.
فعلى سبيل المثال: اعتبر “إتيان دي سينانكور” (Étienne de Senancour 1770-1846) الحل الوحيد لمشكلة الموت هو شفاء البشر من مرض الرغبة في الخلود Immortality. ووفقًا لسينانكور؛ فإن المرء يمكنه أن يقمع هذا الخوف من خلال استغلال جميع طاقته دفعة واحدة في حياته الحاضرة.
سادية.. تشاؤم.. وجودية
نستطيع أن نفهم بسهولة أن نموذج “ماركيز دي ساد” (Marquis De Sade1740-1814) كان تطبيقًا لتلك الفكرة، من خلال رؤيته القاتمة، على الانغماس في الحياة الآنية بكل ثقل الشهوة.
إقرأ أيضا:للكون إله.. العقيدة في مواجهة الشكوك (ج3)فقد قامت نظرة ماركيز على رفض الرغبة في الخلود، بل وازدراؤها، والاستغراق الكامل في الشهوانية، فإن من دواعي السرور: الاستغراق في الشهوات، وإلحاق المعاناة -وحتى الموت- بالآخرين، باعتبارها وسيلة لإطفاء الخوف من الموت، ذلك الاتجاه المعروف بالإلحاد الأيروسي EROTIC ATHEISM.
في سياق التشاؤم لا يمكن أن نغفل نيتشه (Nietzsche 1844-1900) رائد العدمية Nihilism، حيث لم ينف وجود رغبة مؤكدة وجوهرية في الخلود، ولكنه لم ير التعبير عنها في الشهوة كما فعل دي ساد، وذلك لأنه يفسر تلك الرغبة في الخلود بالرغبة في القوة والسلطة، هذا هو معنى الحياة، ومعيار الحسن والقبح والسعادة: “أي شيء يعد حسنا؟ كل ما ينمي الشعور بالقوة، وأي شيء يعد سيئا؟ كل ما يتأتى من الضعف.
ما هي السعادة؟ الإحساس بأن القوة في تنام، وأن هناك مقاومة يتم التغلب عليها. ليس الرضا، بل مزيدا من القوة، ولا السلم في كل الأحوال، بل الحرب، لا الفضيلة، بل البسالة. لابد أن يضمحل الضعفاء وذوي التكوينة المعوقة، وعلينا أن نساعدهم على ذلك”.
وذلك يضاد في وضوح الأخلاق المسيحية، التي تمثل أخلاق العبيد، ومن هنا يؤكد نيتشه على أن الرغبة في السلطة وممارستها – حسب معاييرها السلطوية لدينا-، ووفق الإنسان المتفوق – السوبرمان الأخلاقي – سيخلق لنا معنى للحياة، لم نحصل عليه من قبل.
إقرأ أيضا:دليل العنايةالسلطة، والقوة، هي السبيل لتحقيق معنى للحياة، والأديان مجرد خدعة لحماية المعوقين والفاشلين والضعفاء، وكذلك الفضيلة والعفة، ينبغي استنفاذها من الرجل القوي، ومنعه عنها مجرد حيلة شريرة. لقد صاغ نيتشه قانونًا مضادًا لقانون إيمان المسيحية، بعنوان: (قانون ضد المسيحية) جاء في البند الرابع منه: “الكرازة بالعفة تحريض عمومي على مناقضة الطبيعة. كل احتقار للحياة الجنسية، وكل تنجيس لها عن طريق مفهوم (النجاسة) هي الخطيئة الحقيقية في حق الروح القدس للحياة”.
وبالمثل نجد الوجوديين الإلحاديين مثل سارتر( Sartre 1905-1980)، الذي يؤكد على أن الناس يجدون حياتهم سخيفة، ودون معنى، (كل حي يولد دون مبرر)، “كنت أعلم جيدًا أنه (العالم)، (العالم) العاري الذي يظهر فجأة، وكنت أختنق غضبًا من هذا الكائن العبثي الضخم. لم يكن بإمكان المرء حتى أن يتساءل من أين كان ذلك كله خارجا؟، ولا كيف تم إن وجد عالم؟، ولم يوجد لا شيء؟. لم يكن لذلك أي معنى. كان العالم حاضرًا في كل مكان، أمام ووراء. لم يكن ثمة شيء (قبله) على الإطلاق. لم تكن ثمة لحظة لم يكن يستطيع فيها ألا يوجد”.
ولذلك فإن الناس بحاجة لخلق معنى وهدف لحياتهم، ولن يتحقق ذلك إلا بالحرية المطلقة، لأنه لن يكون هناك أي معنى قبلي للوجود، ولا غرض بعدي له.
إقرأ أيضا:أين هو الله؟نقطة انطلاق
“لقد كتب ديستوفيسكي مرة: إذا لم يكن الله موجودًا؛ فكل شيء مباح. وما كتبه ديستوفيسكي هو النقطة التي تنطلق منها الوجودية. والتي نعتقد فيها أن إنكار وجود الله يعني أن كل شيء يصير فعلاً مباحًا، وأن الإنسان يصير وحيدًا مهجورًا، لا يجد داخل ذاته أو خارجها أية إمكانية يتشبث بها”
ولكن إدراك الإنسان للمعنى، وبحثه عنه، مع كونه عدمًا؛ هو أمر مشكل فلسفيًا، لاسيما مع تقرير سارتر المستفيض أن وجود الإنسان سابق على ماهيته، فكيف يطلب الإنسان ماهية لا وجود لها. والحال أن الوجود ينبغي أن يسبق الماهية، إنه نفس النمط الديكارتي القديم الذي استند إلى أن شعور الإنسان بالعطش دال على وجود الماء، وشعوره بالنقص دال على وجود الكمال، ولذا يستشكل “جان لاكروا” كلام سارتر قائلاً: «إذا كان العالم مجردًا من كل معنى، وإذا كان الإنسان متطلبًا للمعنى، فمن أين يأتي هذا التطلب الإنساني، من أين يأتي به الإنسان”.
وبطرح سارتر أن الحرية هي معنى الحياة، وهي السبيل لتحقيق المعنى، يرفض سارتر اليأس، ولكن البديل عنده كان غريبًا، إنه العمل بلا أمل، “أما اليأس؛ فمعناه بسيط بساطة غريبة، معنى اليأس أننا نقصر إمكانياتنا على مجموعة منها، هي المجموعة التي في نطاق إرادتنا، أو التي في نطاق الاحتمالات التي تجعل عملنا ممكنا، ونتكل عليها. فعندما يريد الإنسان شيئًا ما، تكون أمامه هذه العناصر الاحتمالية المتعددة ، فإذا كنت أنتظر زيارة صديق لي، آت بالقطار، فإني أفترض مسبقًا أن القطار سيصل في الوقت المحدد، أو أنه لن يتأخر: إني أبقى في نطاق الممكن.
ولكن الإنسان لا يتّكل على أية ممكنات ما عدا الممكنات المتصلة بعمله التي لها أثر عليه. فإذا لم تكن هذه الممكنات لها أثر على عمله؛ انتهى منها، ولم تعد له بها صلة؛ لأنه لا يوجد إله، ولا يوجد قدر مسبق محتم يستطيع أن يكيف العالم وإمكانياته حسب إرادته.
وعندما قال ديكارت: (انتصر على نفسك أولاً قبل انتصارك على العالم) كان يعني نفس الشيء: أننا يجب أن نعمل بلا أمل”.
ولا نغفل الفيلسوف الألماني الوجودي مارتن هايدجر (Martin Heidegger 1889-1976)، الذي كانت لب فلسفته الوجودية هي الانطلاق من القلق، حيث رأى أن القلق الوجودي في حياة الإنسان ناتج من شعوره بالخوف من العدم، الذي يتجسد في الموت، ومن ثم أقام فلسفته الوجودية لانتشال الأنا من ذلك العدم.
إلى الأكثر تشاؤما..
أما إذا انطلقنا من الاتجاه الإلحادي التشاؤمي إلى الاتجاه الأكثر تشاؤما؛ فهو سعي بعض الملحدين لإطفاء الخوف من الفناء بالتأكيد على أن الطبيعة في نفسها أمر بائس بالنسبة للإنسان، وبالتالي فإن الموت سيشكل قسطًا من الراحة طال انتظارها للتخلص من عبء الحياة، ومن ثم فإنه يجب تشجيع الموت وانتظاره بدلاً من الخوف منه.
يصف “نيكولا دي شامفورت” (Nicolas de Chamfort 1741-1794) الحياة على أنها مرض، وأن الموت هو الدواء. ووفقًا لهذا الملحد؛ فإن الحياة عبارة عن تعذيب طويل، يمثل الموت تحررا منها، (إنه من المؤسف حقًا أننا ولدنا). لقد تصرف شامفورت نفسه بناءًا على اعتقاداته التي كتبها آخر عمره، وانتحر.
ولم يكن شامفورت شاذًا في تلك النظرة، فإن أصواتًا أخرى من الملحدين المحسوبين على التفاؤل، مثل :ديدرو، و”تشارلز بينو دوكلو” Charles Pinot Duclos 1704-1772))، و”هيلفيتوس” Helvetius، قد شددوا أحيانا على أنه من الحسن أن نذكر مآسي وبؤس وحقارة الحياة، ولو نسبيًا؛ من أجل تقليل الخوف من الفناء.
وفي المذاهب الإلحادية الفردية، عند “شوبنهاور” (Schopenhauer 1788-1860)، و”شتيرنر” Stirner (1806-1856)، و”فون هارتمان” Von Hartmann 1842-1906))، يتم تطوير هذه الاستراتيجية في خطوة جديدة.
فيصف شوبنهاور الوجود الإنساني بأنه طبيعة بائسة بشكل لا لبس فيه، ويضع أمله في الرغبة في الفناء، (لقد كان من الأفضل لو لم يولد البشر)، ولكن: نظرًا لأن المجيء إلى حيز الوجود لم يكن اختياريًا؛ فإن خيار الانتحار يبقى مشروعًا، أو ربما حتى من المرغوب فيه.
ونجد فلسفة هارتمان الإلحادية في عمله: فلسفة اللاوعي Philosophy of the Unconscious 1869)) ؛قائمة على تحطيم المعنويات والطموح والآمال، على نحو عميق، مع دعوة للانتحار الجماعي للبشرية!
ويتمادي في نفس الرؤية في كتابه: التدمير الذاتي للمسيحية ودين المستقبل The Self-Destruction of Chrisitanity and the Religion of the Future 1874))، فيتوقع هارتمان أن الإنسانية سوف تصل في لحظة ما إلى إدراك جماعي بعبث حياتهم، ومصيرهم الإلحادي إلى العدم، ومن ثَمَّ فإنهم سيختارون الإبادة الجماعية!
نقف أخيرًا في القرن العشرين مع الفيلسوف الملحد البريطاني الشهير برتراند راسل Bertrand Russell (1872-1970)، والذي رسم كثيرًا مما يشبه هذه الاستنتاجات الاكتئابية، كما نلاحظ في (غزو السعادة) مثلاً، وكما في كلامه المشهور في محاضرته الأكثر إثارة للضجة (لماذا لست مسيحيًا) التي طبعت في رسالة لاحقًا، حين تكلم عن حتمية فناء العالم، ثم التفت إلى ما تسببه تلك النظرة من اكتئاب وتشاؤم، ولا ينكرها، وإنما يحاول توجيهها إلى أنها ليست بتلك القدرة على الإِحْزان: “عندما يأخذ المرء قوانين العلم العادية سيجد المرء أن الحياة البشرية على هذا الكوكب و الحياة بشكل عام ستنتهي في نقطة زمنية معينة، أي أنها مرحلة انتقالية في دمار وخراب المجموعة الشمسية. في مرحلة انتقالية معينة تكون البلازما مناسبة للحياة و ذلك لمرحلة قصيرة من عمر المجموعة الشمسية. القمر يعرض أمام العيون كيف ستكون نهاية الأرض، ميتة، باردة، وبلا حياة”.
ونلاحظ عزوفًا من الملحدين الجدد – دوكنز وجماعته- عن المشاركة في هذه القضايا على نحو مطول، على الرغم من أن مناقشته تلقى رواجًا في ساحات النقاش الإيماني الإلحادي في الأوقات الأخيرة.
أخيرا: لقد قال الله تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا” (طه:124).
لربما لو افتتحنا ذلك البحث بتلك الآية؛ لسارع الملحدون باتهامه بالوعظية، والدوغمائية، والدعاية التي تقصد إلى التشهير، ولكن الظن الغالب أنه يمكن رؤية تلك الآية في آفاق أوسع بعد ما سبق الحديث عنه.