آيات وجود الله

حوارات الإلحاد والإيمان.. تأمل ذاتك وعالمك (2/3)

حوارات الإلحاد والإيمان فنٌ لا يتقنه إلا من كان ذا خبرة وفطنة وبصيرة ثاقبة، شخص يتمتع بقدرات عقلية تمكنه من استيعاب الطرف الآخر، وقدرات نفسية وانفعالية خاصة تساعده على احتواء استفزازاته وردوده المباغتة، وثقة عالية في الذات تسمح وتقبل بتعالي الطرف الآخر، وأخيرا عقلية منظمة تضع حسابا منطقيا لأكثر من احتمال عند مناقشة أي قضية… وقبل كل ما سبق إيمانا ويقينا راسخا يتسلل في ثنايا الحديث المنطقي ولا يخطئ الهدف نحو قلب المتلقي.. في الحلقة الأولى من النقاش كان العقل هو سيد النقاش، وفي الحلقة الثانية فتح المُحاور آفاقا أرحب للتأمل في النفس وفي الكون الفسيح.

أحمد بن ناصر الطيار

نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلينا لكي يُعلِّمَنا كيف نتعامل مع أنفسنا والآخرين، ولذلك شرع لنا الصلاة، وأنزل القرآن، وهما غذاء النفس والروح..

قلت: أتأذن أنْ أخرج قليلاً وأتركك تأخذ قسطاً من الراحة؟

قال: نعم.. فخرجت والعرق يتصبَّب منه، ورأيت فيه القلق والتوتر، وأعتقد جازماً أنها بسبب الصراع من داخل نفسه، فهو مقتنعٌ من أشياء يراها مُسلَّمات، وها هي تُنقَض عروةً عروة.

فلمَّا أتيت رأيت عليه علامات الراحة والهدوء؛ فرحبت به أشد ترحيب، وأثنيت على صبره وعقليَّته وثقافته وطلبه للحقّ.

إقرأ أيضا:العلوم الحديثة تقطع الوشيجة بين الناس والكون

فقلت له: الآن نحن قطعنا ثلثي الطريق، بقي القليل، ألسنا اتفقنا بوجود الله تعالى، وبإرساله للرسل، وتنوعهم بالرسالة، وأنهم جاؤوا لمصلحتنا؟.

قال: نعم.

قلت: بقي آخر رسولٍ ونبي، وهو محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.

عندها بدأ النقاش الصعب والحاد، وهو الذي بدأني بالسؤال عنه، وهو مُنطلَقُ شكِّه، وهو الذي منه يُثير على الأساتذة وزملائه الأسئلة التي تُوحي بالشكوك، ويطلب أجوبةً لهذه التناقضات- بحسب رأيه-، ولكن هذا التسلسل هو الذي مهَّد الطريق لإقناعه، وتخيف شكوكه وأوهامه.

فأخذت أوراقاً وقلماً، وبدأت أناقشه مستعيناً بها، فهي أدعى لفهمه واستيعابه.

قلت له: أتعرف ما هي أهمّ مُهمّات محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟

 إنه جاء بمهمَّاتٍ من أعظمها و أهمِّها:

  • تعريفنا بأنفسنا، وكيف نتعامل معها، ومع الآخرين.
  • تعريفنا بالكون، وكيف خُلق، وهو أمرٌ أعقد من سابقه، قال تعالى: “لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ” (غافر:57)
  • تعريفنا بما بعد الموت من الأمور الغيبية، وهو أمرٌ أعقد من الأمرين السابقين.

فلْنبدأ بالمهمَّة الأولى:  ألا توافقني بأنَّ من أصعب الأمور التعامل مع نفسك؟ قال: بلى، قلت: معك حق، ولذلك أُنشئت جامعاتٌ وتخصصاتٌ لدراستها، ومعرفة كنهها، وكيفيَّة التعامل معها.

إقرأ أيضا:بعد المزيد من البحث.. العلم يعثر على الإله (مترجم)

فنبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلينا لكي يُعلِّمَنا كيف نتعامل مع أنفسنا والآخرين، ولذلك شرع لنا الصلاة، وأنزل القرآن، وهما غذاء النفس والروح.. علَّمنا الأخلاق والقيم، وعلَّمنا التسامح والرحمة.

وأما الكون:  فالله تعالى ذكر لنا في كتابه عن الكون، وعن سعة ملكه، “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات:47)، والعلماء الفلكيون أثبتوا أن الكون لا يزال يتوسع كلَّ لحظة.

في حوارات الإلحاد والإيمان.. توقع رفض منطقك واستعد له

لقد أثبت الفلكيون أنَّ الكون جاء من عدم، وهو ما يُسمَّى في علم الكون الفيزيائي: الانفجار العظيم!

أخبرنا عن الشمس والقمر وبديع دورانهما، أخبرنا عن الجبال وكيفيَّة إرسائها.

قال تعالى: “أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (الأنبياء:30)

فقلت: ألا توافقني على ذلك؟.. قال: لا!!

قلت: أشكرك على صراحتك، ولكن أخبرني لِمَ؟

إقرأ أيضا:التوحيد وعلاقة الإنسان بالكون.. نظرة فلسفية

قال: لقد أثبت الفلكيون أنَّ الكون جاء من عدم، وهو ما يُسمَّى في علم الكون الفيزيائي: الانفجار العظيم.

فقلت في نفسي: ليتك وأمثالك ممَّن يمتلك عقلاً ذكيا أنْ يُحسن التعامل معه، فهل هناك أحدٌ نشأ بين مسلمين يجعل من هذا إشكالاً.؟!!

فأجبته وقلت: إنَّ ما تذكره من نظرية الانفجار العظيم: قد رأيت فيلما يشرحها قبل ثمان سنوات، يوم أنْ كُنْتَ أنتَ في المرحلة الابتدائية، ولخَّصْتُها في مذكرةٍ عندي، وهو ما جاء شرعنا العظيم الْمُطهَّر بتقريره.

قال تعالى: “أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا” (الأنبياء:31)، قال العلماء: أي متلاصقةً كتلةً واحدة، ففجرها الله، فأنشأ منها الكواكب والشمس والأرض.

فقلت له: هل توافقني الآن؟

قال: نعم، ولكن بقي إشكالان،  أحدها:  أنه ورد أنَّ الشمس لا تغيب حتى تسجد! فكيف يتوافق هذا مع ما يُثبته العلم الحديث ومع ما نراه بأعيننا؟

فقلت له: ما ذكرته هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: (أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قال: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ). رواه البخاري

ولا بدّ أنْ أبين لك المقصود من السجود، قال أهل العلم: سجودُ كلِّ شيءٍ بحسبه، وليس معنى السجود هنا: توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم لتحقيق السجود بالنسبة للشمس، فمن معاني السجود في اللغة: الخضوع كما ذكره ابن منظور وغيره. وعليه يُحمل ما في هذا الحديث وهو المقصود في قوله تعالى في آية “أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ” (الحج:18).

قال ابن كثيرٍ رحمه الله: “يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به”. أ.هـ

فسجود الشمس والطير والدواب: خضوعها لله، وكونها تحت سيطرته وملكه وتدبيره.

فقال لي: بهذا التفسير لا أجد عقلي يُخالفه أو يُنكره، ولكن لماذا لم نتعلم هذا الكلام من المعلمين الذين كنا نسألهم؟

قلت له: هل كانوا يقولون : بأن الشمس تسجد كسجود الآدميين؟

قال: لا، ولكنهم يقولون: نؤمن ونَكِلُ كيفيَّتَه إلى الله.

فقلت: المهم أني أخبرتك بالتفسير الصحيح، وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم.

قال:  والإشكال الثاني:  أنه ورد أن السموات سبعٌ ونحن لا نرى إلا سماءً واحدة؟.

فقلت: كما هو معلومٌ أنَّ علماء الفلك أجمعوا على أنَّهم لم يتمكنوا من الإحاطة بالكون ولا عشر معشاره، وما تعرفه من كثرة وعظمة المجرات كلها تحت محيط السماء الدنيا، فمن أين لك أنه لا يُوجد سماءٌ فوق سمائنا، وإذا كنا قد اتفقنا على أن الله حق، فما قاله حقٌّ أيضا، فقد أخبرنا أن السماوات سبعٌ فقال: “اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ…” (الطلاق:12) ثم تأمل ما ذكره من الحكمة في خلقها بهذه الكثرة والعظمة: “… لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا”(الطلاق:12).

قلت: فهل اتفقنا الآن؟.. قال: نعم.

قلت: بقي الأخير، وهو ما بعد الموت من الأمور الغيبية.

العقل نِطاقه ضيِّق، لا يتحمل أنْ يعي أمور الغيب كلها، أسرارها وتفاصيلها، فإذا جاء يوم القيامة، أعطى الله المؤمنين قوَّةً عقليةً وجسميةً يُدركون معها هذه الأمور.

قال: نعم وهو أعْقد الأمور عندي، وأجد صعوبةً بالغةً في تصديق كثيرٍ منها.

قلت: الأمر بسيطٌ جداً، لكن ما رأيك أنْ نضع قاعدةً نتفق عليها، ثم نبحر في هذه النقطة بعدها؟

قال: تفضل.

قلت- وأخرجت له الجوال وفتحت بطاريته: ما رأيك لو دخلت على زملائك وهم مُحتدُّون في النقاش عن سبب اقتصار البطارية على هذه الأسلاك الأربعة، لِمَ لَمْ يجعلوها خمسةً!! ما رأيك هل سؤالهم في محلِّه؟

قال: طبعاً لا ، وهو سؤالٌ سخيف.

قلت: لِمَ؟.. قال: لأنهم لن يستفيدوا من الإجابة شيئاً.. قلت: إذن نتفق أنَّ أيَّ سؤالٍ لا نستفيد من الإجابة عليه فهو سؤالٌ خاطئ؟

قال: نعم.

قلت: وكذلك نزيد توضيحاً: أنهم سألوا سؤالاً ووجهوه إلى شخصٍ ليس هو من تخصصه، ولو سألوا مَن صنعه لكن السؤال وجيها نوعاً ما، أتوافقني؟.

قال: نعم.

قلت: بعد تقرير هذه القاعدة التي اتفقنا عليها، أعطني ما عندك.

قال لي: أجد صعوبةً في تصديق بعض الأمور الغيبية، كعذاب القبر، وضيقه واتّساعه، ونحن إذا حفرنا القبر لا نرى شيئاً!!.

قلت: أرأيت هذا الجوال، هل خطر على بالك يوماً ما أنْ تُفتش جزئيَّاته وتسأل عن تفاصيله؟

قال: لا.

قلت: فكذلك الأمور الغيبية، لِمَ تسأل عن جزئيَّاتها، وهي لم تأتك بعدُ؟

ولا تنس أنك قرَّرت بنفسك أنَّ أيَّ سؤالٍ لا نستفيد من الإجابة عليه فهو سؤالٌ خاطئ، فماذا تستفيد من إشغال نفسك وعقلك بأمورٍ لا تستفيد من البحث عنها، ولن تؤثر على مُجْريات حياتك، فأشْغل عقلك وفكرك بما ينفعك.

ثم هنا أمرٌ مهم: ألست وافقتني على أنك مؤمنٌ مصدِّقٌ بالله و رسوله؟

قال: بلى.. قلت: فيلزمك أنْ تُؤمن بجميع ما أخبر اللهُ ورسولُه.

والعقل نِطاقه ضيِّق، لا يتحمل أنْ يعي أمور الغيب كلها، أسرارها وتفاصيلها، فإذا جاء يوم القيامة، أعطى الله المؤمنين قوَّةً عقليةً وجسميةً يُدركون معها هذه الأمور.

ثم إن الله تعالى لا بدّ أنْ يميز المؤمن من عباده المحب لربه من الكافر، فلذلك ألزمنا بالإيمان بالغيب ليتبين المؤمن المصدق من غير المؤمن المكذب، وإلا لو أصبح الغيب علانية لم يكن لإيمان المؤمن ميزةٌ وفضيلة، حيث آمن وصدق بما رآه.

وأخيراً أليس الله تعالى قد أقام لنا من الحجج والبراهين والآيات الظاهرة في أنفسنا وفي الكون حولنا؟.

تأمل قوله تعالى: “وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ” (الذاريات: 20،21)

وتأمل قوله جلَّ ذكره: “إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” ( البقرة: 164).

أليست هذه آياتٌ ظاهرةٌ كافيةٌ في تقرير وحدانية الله والتصديق بما جاء؟.

أليس من حقِّ الله تعالى أنْ يحجب عنَّا ويغيِّب عنَّا بعض الأمور ليبتلينا ويختبر الصادق منا؟

أرأيت لو أنَّ معلماً أملى عليك الأسئلة، وجعل السؤال الأخير سؤالاً صعباً دقيقاً ليُميِّز به الطالب المتفوق من الطالب العادي: أكنت تلومه على ذلك؟

قال: لا.

قلت: ولله المثل الأعلى، فهو سهَّل علينا طريق الإيمان به، فأنزل كتاباً بليغاً مُعجزاً، وأرسل لنا رسولاً ناصحاً أميناً، أيحقُّ لك أنْ تعترض عليه حينما يخفى عنك أموراً غيبيةً يبتليك ويختبرك بها؟.

ثمّ إني سأقررّ لك خمسَ قواعد:…

السابق
الأخلاق.. ودلالتها عَلى وُجودِ الله تَعَالى
التالي
حوارات الإلحاد و الإيمان.. اربح جولاتك بالمنطق (3-1)