كان لمأساة أُحُد أثرها على سمعة الدولة الإسلامية بالمدينة، فضعفت هيبة المسلمين في نفوس أعدائهم، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وأظهر اليهود والمنافقون والأعراب عداءهم، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم .
ولم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة، ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَة بمكيدة تسببت في قتل عشرة من الصحابة، وفي الشهر نفسه قام عامر بن الطفيل بتحريض بعض القبائل حتى قتلوا سبعين من الصحابة، من خيار المسلمين وفضلائهم يقال لهم: القراء، وتعرف هذه الحادثة بحادثة بئر مَعُونَة .
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جاء ناس إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : أن ابعث معنا رجالا، يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم : القراء، فيهم خالي حرام ، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم ، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراما ، خال أنس ، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام : فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه : إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا )(مسلم).
إقرأ أيضا:وجدت ما وعدني ربي حقاوفي رواية البخاري عن هشام بن عروة قال أخبرني أبي قال: ( لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل : من هذا فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية : هذا عامر بن فهيرة ، فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إليه بين السماء والأرض ثم وضع، فأتى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا، فأخبرهم عنهم ..).
لم تكن هذه الأحداث المؤلمة التي جاءت بعد معركة أحد، إلا مبعث حزن للنبي – صلى الله عليه وسلم-، فلم يكد يعلم بفاجعة أصحابه حين لحق بهم الغدر فيما يسمى بالرجيع، حتى كانت الفاجعة الأكبر في بئر معونة، فظل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهرًا يقنت في صلاة الفجر، داعيًا على قبائل سليم التي عصت الله ورسوله وقامت بالغدر وقتل أصحابه .
وذكر ابن سعد عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ” ما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد(حزن) على أحد، ما وجد على أصحاب بئر معونة، ومكث يدعو عليهم ثلاثين صباحا ” .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( قنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه )(أبو داود) . وقال أنس بن مالك – رضي الله عنه -: ( وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت )(البخاري).
ورغم عظم المصاب في هذه الحادثة إلا أنها لم تفت في عضد المسلمين، ولا أضعفت من عزمهم في مواصلة الدعوة إلى الإسلام، لأن دين الله فوق الأنفس والدماء، بل إن الدعوة إلى الله لا يكتب لها الفتح والنصر إذا لم يُبْذل في سبيلها الغالي والنفيس، ومن ثم لم تتوقف وفود الصحابة عن الخروج من المدينة لنشر الدعوة الإسلامية مهما كانت التضحيات ..
وقد أظهرت فاجعة بئر معونة بعض المناقب والكرامات لصحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. والكرامة هي الخارقة التي يسوقها الله ـ عز وجل ـ على يد ولي من أوليائه، ومَنْ أَوْلى بذلك من صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذين كانت آيات صدقهم ظاهرة، وعلامات إيمانهم وجهادهم وتضحياتهم باهرة ..
فعامر بن فهيرة ـ رضي الله عنه ـ لما قُتل ببئر معونة وأُسِر عمرو بن أمية الضمري ، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة ، فقال: لقد رأيته بَعْدَ ما قُتِلَ رُفِعَ إِلى السماء ، حتى إِني لأنظر إِلى السماء بينه وبين الأرض ، ثم وُضع ..
وحرام بن ملحان – رضي الله عنه – عندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه يقول: ( فزت ورب الكعبة )(البخاري).
وفي ذلك الموقف منقبة وكرامة لحرام بن ملحان ـ رضي الله عنه ـ إذ هو علامة على صدقه في طلبه للشهادة في سبيل الله .. ثم إنه قال : ” فزت ورب الكعبة ” لعلمه بمنزلة الشهيد عند الله ـ عز وجل ـ ..
فعن المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه )(الترمذي).
كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم، كما قال الله تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }(آل عمران:169) ..
وقد أظهرت حادثة بئر معونة عدم معرفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم للغيب، إذ لو كان يعلم الغيب ما أرسل أصحابه ليقتلوا، كما دل على عدم علمه للغيب أدلة أخرى، منها قول الله ـ عز وجل ـ: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }(الأعراف:188) . فالرسل جميعا لا يعلمون الغيب إلا ما علمهم ربهم ـ عز وجل ـ ، قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }(الجـن:27:26) ..
إن حادثة بئر معونة تبصرنا بالمسؤولية الضخمة عن دين الله والدعوة إليه، وتحذرنا من غدر الغادرين، وتفيدنا كيف أن الله سبحانه يكرم بعض عباده بكرامات تزيد إيمان أوليائه، وتؤثر في نفوس أعدائه، ومن مات صابراً محتسباً فله البشارة من الله ..
كما أنها تضع نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ من أجل دينهم ومرضاة ربهم .