الحياء خلق رفيع، يحمل صاحبه على تجنب القبائح والرذائل، ويأخذ بيده إلى فعل المحاسن والفضائل، وهو زينة النفس وتاج الأخلاق، وهو البرهان الساطع على عفة صاحبه، ولئن كان الحياء خلقا نبيلا، فهو أيضا شعبة من شعب الإيمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه البخاري .
وعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( الحياء لا يأتي إلا بخير ) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم: ( الحياء خير كله ) .
وعن أبي مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) رواه البخاري .
وقد عُرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الخلق واشتُهر عنه، حتى وصفه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ بقوله : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد حياءً من العذراء في خِدْرها ، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه ) رواه أحمد .
قال ابن حجر: ” وقوله ( في خِدرها ) الخدر ستر يكون للجارية البكر في ناحية البيت ” .
وقال النووي: ” معناه أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يتكلم بالشيء الذي يكره لحيائه، بل يتغير وجهه، فنفهم كراهيته، وفيه فضيلة الحياء وأنه محثوث عليه ما لم ينته إلى الضعف والخور “.
الحياء من الله :
أول وأهم مظاهر حيائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياؤه مع الله ـ عز وجل ـ، ومن ذلك ما رواه مالك بن صعصعة – رضي الله عنه – من تردد النبي – صلى الله عليه وسلم – ـ ليلة المعراج – بين ربه ـ عز وجل ـ وبين موسى ـ عليه السلام ـ، وسؤاله لربه التخفيف في الصلاة حتى جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة بعد أن كانت خمسين، فقال له موسى عليه السلام: ( ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم ) رواه البخاري .
والحياء من الله الذي علمه لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون باتباع أوامره واجتناب ما نهى عنه، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال ذات يوم لأصحابه: ( استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله، إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء ) رواه الترمذي .
قال ابن حجر: ” قال القاضي عياض: أشار بعض العلماء إلى أن في هذا الحديث تنبيها على جميع أنواع المعاصي والتحذير منها ” .
الحياء من الناس :
وأما حياؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الناس، فالأمثلة عليه كثيرة ومتنوعة :
في وليمة زواجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزينب ـ رضي الله عنها ـ موقف من مواقف حيائه وعلامة من علامات نبوته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، فعن الجعد عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: (تزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سليم حيسا (تمر مخلوط بسمن)، فجعلته في توْر(إناء)، فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، قال: فذهبت بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقلت: إن أمي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا وفلانا، ومن لقيت، وسمى رجالا. قال : فدعوت من سمى ومن لقيت، قال: قلت لأنس : عدد كم كانوا؟، قال: زُهَاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا أنس، هات التور، قال: فدخلوا حتى امتلأت الصُفَّة والحجرة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا, قال : فخرجت طائفة ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم، فقال لي: يا أنس، ارفع، قال: فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت . قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فخرج رسول الله صلى ـ الله عليه وسلم ـ فسلم على نسائه ثم رجع، فلما رأوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حتى أرخى الستر، ودخل وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج عليَّ، وأنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقرأهن على الناس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً }(الأحزاب:53) ) رواه مسلم .
إقرأ أيضا:هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في الزينةوعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: جاءت امرأة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسأله عن الغسل من المحيض، فقال: ( خذي فِرْصَةً ( قطعة من صوف أو قطن ) من مسك فتطهري بها، فقالت: كيف أتطهر بها؟، قال: تطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟!، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: سبحان الله، سبحان الله، واستتر بثوبه: تطهري بها، فاجتذبتها وعرفت الذي أراد، فقلت لها: تتبعي بها أثر الدم ) رواه البخاري، وفي رواية أخرى: ( استحيا وأعرض ) ..
ومن صور حيائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان لا يرد سائلا، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ( وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُسْأل شيئا إلا أعطاه ) رواه أبو داود .
وقد سأل الحسنُ بن علي هندَ بن أبي هالة عن أوصاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان مما قاله عنه : ” من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء ” .
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الحياء لا ينبغي أن يكون مانعًا للمسلم من أن يتعلم أمور دينه ودنياه، ومن ثم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم الصحابة كل ما يعنيهم في أمر دينهم ودنياهم، فقد قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: ( قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟! قال: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاث أحجار، أو أن يستنجي برجيع أو بعظم ) رواه مسلم .
وروى البخاري في صحيحه أن أم سُليم ـ رضي الله عنها ـ جاءت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: ( يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل، إذا رأت الجنابة في منامها؟، فقال لها: نعم، إذا رأت الماء ) .
وكذلك لا يمنع الحياءُ المسلمَ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدب ورفق وحكمة، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حليما حييا ـ أشد حياء من العذراء في خدرها ـ، ولم يمنعه ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغضب إذا انتُهكت محارم الله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظُلِمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان من أشدهم في ذلك غضبا) رواه الترمذي .
فالحياء والغضب لله لكلٍّ منهما مكانه اللائق به، كما في هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله، فالأمر النافع قد ينقلب إلى ضار متى وضع في غير موضعه
ووضعُ الندى في موضعِ السيف بالعُلى مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى
الحياء خلق نبوي رفيع، يحمل صاحبه على تجنب القبائح والرذائل، ويأخذ بيده إلى فعل المحاسن والفضائل، ولم يكن خُلق الحياء عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ خُلقا طارئا، بل كان صفة ملازمة له في كل أحيانه وأحواله، وفي بيته ومجتمعه، ويكفي لمعرفة منـزلة هذا الخلق النبوي الكريم ومكانته أنه شعبة من شعب الإيمان بالله ـ عز وجل ـ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (والحياء شعبة من الإيمان) رواه البخاري ، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخَر) رواه الحاكم .