من بدر إلى الحديبية

غزوة الأحزاب وحسان بن ثابت

مِنْ سُنّة الله تعالى في عباده أن يبتليهم بأنواع من الضراء والبأساء حتى يتميز صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من منافقهم، وطيبهم من خبيثهم، قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2-3). ومن مواطن الابتلاء الشديدة التي مرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ما حدث معهم في غزوة الأحزاب، حيث اتجهت الأحزاب الكافرة نحو المدينة المنورة بجيش كبير يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل من قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم بقيادة أبي سفيان، والمسلمون في حال شديدة من جوع شديد، وبرد قارص، وعدد قليل، كما أن اليهود كعادتهم نقضوا عهدهم مع المسلمين، وأظهر المنافقون نفاقهم، وبثوا أراجيفهم، فكان موقفاً عسيراً لا يثبت فيه إلا من ربط الله تعالى على قلبه بالإيمان واليقين.. وقد وقعت أحداث هذه الغزوة المباركة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة، وكان المحرّك لها يهود بني النضير بعد إجبار المسلمين لهم على الخروج من المدينة المنورة ليسكنوا أرض خيبر عقاباً لهم على خيانتهم وغدرهم ومحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم، مما أثار في قلوبهم مشاعر الحقد والغيظ، فأخذوا يحيكون المؤامرات للقضاء على الإسلام، وإنهاء وجود المسلمين في المدينة المنورة.

جاءت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم باقتراب الأحزاب من المدينة المنورة، فعقد اجتماعاً مع المهاجرين والأنصار لمناقشة ما ينبغي فعله لمواجهة هذا العدوان وهذه المؤامرة، فاتفقوا على ضرورة الخروج إلى هذه الأحزاب، ومنعها من الوصول إلى المدينة، لكنّ سلمان الفارسيّ رضي الله عنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر خندقٍ كبير، كما كانوا يفعلونه في أرض فارس، فأُعْجِبَ النبي صلى الله عليه وسلم بفكرته، وأمر بحفر الخندق في شمال المدينة، وذلك لأنّ بقيّة الجهات كانت محصّنةً بالبيوت المتقاربة والأشجار المتشابكة، والأراضي الصخريّة التي تحول دون دخول المشركين وتقدّمهم. وبدأ المسلمون العمل في حفر الخندق بهمّة عالية وعزيمة قوية على الرغم من برودة الجوّ وقلة الطعام، وزاد من حماسهم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في الحفر ونقل التراب، واكتمل بناء الخندق خلال عشرين يوماً، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان في إحدى حصون بني حارثة لحمايتهم، وترك معهم حسان بن ثابت رضي الله عنه, ثم أمر بتنظيم دوريّاتٍ لحراسة المدينة من جميع الجهات، وعيّن سلمة بن أسلم الدوسي رضي الله عنه لتولّي الحراسة عند الخندق، وأرسل مع زيد بن حارثة رضي الله عنه مائتي رجل لمراقبة الجهة الجنوبية.

إقرأ أيضا:دروس وعبر من غزوة الأحزاب (الخندق)

وصل الأحزاب إلى حدود المدينة المنورة فعجزوا عن دخولها لوجود الخندق، فضربوا حصاراً عليها، وأدى هذا الحصار إلى تعرّض المسلمين للأذى الشديد، والمشقة والجوع، وطال الحصار حتى وصل ثلاثة أسابيع، واشتدّ البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد وصف الله عز وجل هذا الموقف بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:10-11). 

اشتد الكرب على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر، وزلزلوا زلزالاً شديداً، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء داعياً ربه قائلا: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم) رواه البخاري. فاستجاب الله دعاء نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأقبلت بشائر الفرج والنصر، وصرف الله عز وجل بحوله وقوته جموع الكفر من الأحزاب، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم باختلافهم، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنوداً من عنده، فرجعت قريش والأحزاب في خيبة وهزيمة، وانفك الحصار، وثبت المؤمنون، وانتصر الإيمان، وفي ذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب:9).

إقرأ أيضا:عبرة من مصارع الطغاة في بدر

فائدة: عدم صحة ما يروى عن جبن حسان رضي الله عنه

رُوِيَ أن صفية رضي الله عنها في غزوة الأحزاب قالت لحسان بن ثابت: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود، وقد شُغِل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك، احتجزت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت الحصن، فقلت: يا حسان! انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أن استلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسَلَبه من حاجة يا بنت عبد المطلب“. وهذا الخبر لا يصح من حيث الإسناد، فالسند في روايته ضعيف أو منقطع، وفيه طعن لا يصح، ولا يجوز في صاحبي جليل كان ينافح عن الدعوة وعن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى فرض ثبوت هذه القصة فغاية ما تدل عليه امتناع حسان رضي الله عنه مِن قتل اليهودي فحسب، وليس فيها بيان سبب امتناعه، فلا يصح أنْ نحمل ذلك على الجبن، وما تناقله بعض المؤرخين وأهل السير من وصف حسان رضي الله عنه بالجبن، اعتمدوا فيه على بعض الروايات الباطلة والمنقطعة؛ إذ لم يصح حديث في إثبات أنَّ حسان بن ثابت رضي الله عنه كان جباناً، ولو كان كذلك لهجاه الشعراء بذلك؛ فإنه قد هجا قوماً وشعراء كثيرين، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يهجه أحدٌ منهم أو يصفه بالجبن. قال المبرَّد: “وحُدِّثْتُ أنَّ الأصمعيَّ قال: الدليل على أنَّ حَسَّاناً لم يكن جباناً مِن الأصل أنه كان يُهاجي خَلْقاً فلم يعيره أحدٌ منهم”. 

إقرأ أيضا:دروس وعبر من غزوة الأحزاب (الخندق)

وقال السهيلي في (الروض الأنف): “ومَحْمل هذا الحديث عند الناس على أن حساناً كان جباناً شديد الجبن، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره؛ وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهُجِيَ به حسان، فإنه كان يُهاجي الشعراء، كضرار وابن الزِّبْعرى وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويرودُّن عليه، فما عيّره أحد منهم بجبن، ولا وَسَمَه به، فدل هذا على ضعف حديث ابن إسحاق، وإنْ صحّ فلعل حسان أن يكون معتلًا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال، وهذا أولى ما تُأول عليه، وممن أنكر أن يكون هذا صحيحاً أبو عمر (ابن عبد البر) في كتاب (الدرر) له”.

وأما تناقله بعض المؤرخين من الدعوى بأنّ حساناً رضي الله عنه لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً، فهذه دعوى لم يقم عليها دليل صحيح، ولو صحت هذه الدعوى فلا يجوز حملها على الْجُبن، لبطلان الأدلة على ذلك، ومن المعلوم والثابت أنَّ حساناً رضي الله عنه لم يتخلف عن شيء من مغازي النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال مباشراً، كبدر وأحد وحنين، وكذلك لم يُذكر أنه تخلف مع من تخلف في غزوة تبوك مع ما كان فيها من عظيم المشقة وشدة التعب، فكيف يوصف بالجبن؟!!

وقد قرّر ابن تيمية أن وصف بعض الصّحابة رضي الله عنهم بالجبن سبّاً، يستحق صاحبه التَّأديب والتّعزير، قال: “وأمّا من سبّهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلّة العلم، أو عدم الزّهد ونحو ذلك، فهذا هو الّذي يستحقّ التّأديب والتّعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يُحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء”.

مع أنه لم يقع في غزوة الأحزاب قتال شديد، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية، وفيها من الدروس والعبر الكثير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعدها: (‏الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم‏) رواه البخاري.. فما أحوجنا في هذا العصر إلى دراسة السيرة النبوية، والاستفادة من دروسها وعبرها، والتي منها اليقين بأن ما نعانيه في هذا العصر من أذى الكافرين وتسلط المنافقين، قد وقع مثله وما هو أشد منه مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فاستعانوا بربهم، وصبروا على الأذى والبلاء، وثبتوا على دينهم، وأعدوا العدة ـحسب طاقاتهم وإمكانياتهمـ لمواجهة أعدائهم، فأحسن الله تعالى لهم العاقبة بالنصر والتأييد على أعدائهم، ورضي فعلهم فأرضاهم ورضي عنهم، وما نال أعداؤهم إلا الهزيمة والحسرة في الدنيا، والخسارة في الآخرة.

السابق
سفراء النبي صلى الله عليه وسلم
التالي
من صور حب النبي لأمته