في شهر ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة النبوية، دخل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نحو ألفين من المسلمين مكة لأداء العمرة، التي سُميت في السيرة النبوية بعمرة القضاء، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا، ولا يقيم بهم إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا، أمروه أن يخرج فخرج) رواه البخاري.
ويقال لهذه العمرة: عمرة القضاء وعمرة القضية، وتعتبر تصديقا إلهياً لِمَا وعد به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من دخول مكة وطوافهم بالبيت، قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:27). قال ابن كثير: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُري في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال:بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به .. وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع”.
أدى النبي صلى الله عليه وسلم مناسك العمرة هو ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم ثم انصرف بهم راجعاً إلى المدينة المنورة، وفي أثناء رجوعه وسيره حدث موقف ترتب عليه حكم شرعي، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة بعد أدائه للعمرة، تبعته ابنة حمزة تنادي يا عم، يا عم، فتناولها علي، فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم، فقال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي .. فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهتَ خَلقي وخُلقي، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا) رواه البخاري.
إقرأ أيضا:سرية ذات السلاسلوفي هذا الموقف أحكام وفوائد كثيرة، منها:
ـ الخالة بمنزلة الأم، أي في استحقاق الحضانة عند فقد الأم وأمهاتها، وذلك لأنها تقرُب منها في الحُنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد، وهي تقدَم على العمة وسائر الأقارب في الحضانة إذا لم يوجد الأبوان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم إلى زوجة جعفر بالحضانة، وعمتها صفية بنت عبد المطلب حية موجودة، قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: “وفى هذه القصة مِن الفقه: أن الخالةَ مقدَّمة فى الحَضانة على سائر الأقارِبِ بعد الأبوين.. وفى القصة حُجَّة لمن قدَّم الخالة على العمَّة، وقرابةَ الأُم على قرابة الأب، فإنه قضى بها لخالتها، وقد كانت صفيَّةُ عمَّتها موجودةً إذ ذاك”.
فالخالة بمنزلة الأم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أمرنا ببرها، وبين لنا أن برها من الأسباب المكفرة للذنوب، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أَصَبتُ ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟! قال: هل لك من أُمٍّ؟ قال: لا، قال: وهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فَبِرَّها) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
وخالة بنت حمزة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بحضانتها لها في هذا الموقف هي: أسماء بنت عُميس زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهي امرأة قد اجتمع لها في الإسلام ما لم يجتمع لغيرها، فقد هاجرت الهجرتين، إلى الحبشة ثم إلى المدينة.
ـ تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ووصفه له بقوله: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي) قال ابن حجر: “وهي منقبة عظيمة لجعفر“.
ـ فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت مني وأنا منك)، قال ابن حجر: “أي في النسب والصهر، والمسابقة والمحبة، وغير ذلك من المزايا، ولم يُرد محض القرابة، وإلا فجعفر شريكه فيها”، وكذلك فضلزيد بن حارثة رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت أخونا ومولانا)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد آخى بينه وبين عمه حمزة رضي الله عنه.
ـ العرب في الجاهلية كانوا لا يحبون البنات، وكان عدم حبهم لها والخوف من عارها يحمل بعضهم على كراهتها بل وعلى قتلها ووأدها، كما قال الله تعالى عن ذلك: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل 58: 59)، حتى بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فجرَّم وحرم هذه الفِعلة الشنعاء وهي وأد البنات، وحث على إكرامها وحسن تربيتها في أحاديث كثيرة، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ وُلِدَتْ له ابنةٌ فلم يئِدْها ولم يُهنْها، ولم يُؤثرْ ولَده عليها ـ يعني الذكَرَ ـ أدخلَه اللهُ بها الجنة ) رواه أحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه الشيخ أحمد شاكر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كان له ثلاثُ بناتٍ أو ثلاثُ أخَوات، أو ابنتان أو أُختان، فأحسَن صُحبتَهنَّ واتَّقى اللهَ فيهنَّ َفلهُ الجنَّةَ) رواه الترمذي، وفي رواية جابر بن عبد الله: (مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤدِّبُهنَّ ويرحَمُهنَّ ويكفُلُهنَّ وجَبَت له الجنَّةُ ألبتةَ، قيل يا رسولَ اللهِ: فإن كانتا اثنتينِ؟، قال: وإن كانتا اثنتينِ، قال: فرأى بعضُ القومِ أن لو قال: واحدةً، لقال: واحدةً ) رواه أحمد وصححه الألباني..وهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل صراحة على أنَّ البنات كنَّ محلاً لجهالات وبُغض بعض العرب وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تغيرت هذه النفوس والعقول بتأثير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسنته تغيراً عظيماً، فأصبحت البنت ـ التي كان أشراف العرب يزهدون فيها ويتعيرون منها ـ حبيبة يتنافسون في تربيتها، كما حدث من تنافس بين علي بن أبي طالب وشقيقه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم في حضانة وتربية ابنة حمزة رضي الله عنه.
إقرأ أيضا:لن نُغْلَبَ اليوم مِنْ قِلة