الوفاء بالعهد من الصفات التي حثَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، ولا فرق في أن يكون المُعَاهَد صديقاً أو عدواً، مسالماً أو محاربا، بل مسلماً كان أو كافراً..وقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه في خُلُق الوفاء بالمقام الأسمى، والمكان الأشرف، ولم يتخلف وفاؤه لأعدائه، رغم أنهم بذلوا غاية جهدهم في محاربته وإيذائه، وكادوا له ولصحابته، ومن ثم اعترفوا وأقروا بفضله ووفائه صلوات الله وسلامه عليه، فقال مكرز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيراً، بل عُرِفتَ بالبر والوفا”. ولما سأل هرقل أبا سفيان – وهو عدو لرسول الله حينئذ -: “أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر”.
والسيرة النبوية المشرفة بما فيها من غزوات وأحداث مليئة بالمواقف المضيئة التي تحث وتؤكد على الوفاء وحفظ العهد مع العدو، ومن هذه المواقف موقفه صلى الله عليه وسلم مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأبيه في غزوة بدر.
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهدَ بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْل، فأخذنا كفارُ قريشٍ، قالوا : إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلا المدينة، فأخذوا منا عهدَ الله وميثاقَه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتل معه، فأتينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نَفِي بعهدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم) رواه مسلم.
قال المناوي: “( انصرفا، نَفِي بعهدِهم) أمْرٌ لحذيفة وأبيه بالوفاء للمشركين بما عاهدوهما عليه حين أخذوهما وأخذوا عليهما أن لا يقاتلوهما يوم بدر، فاعتذرا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبل عذرهما وأمرهما بالوفاء، (ونستعين الله عليهم) أي: على قتالهم، فإنما النصر من عند الله لا بكثرة عَدَد ولا عُدَد، وقد أعانه الله تعالى، وكانت واقعة (بدر) أعزَّ الله بها الإسلام وأهله”.
هذا الموقف النبوي يعطي صورة من أعظم صور الوفاء، لأن هذا العهد والاتفاق لم يكن معه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقره وأمضاه مع احتياجه لحذيفة رضي الله عنه في القتال في بدر، بسبب قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وذلك لأنه صلوات الله وسلامه عليه سيد الأوفياء، وما كان له أن يرضى بأن يخالف حذيفة رضي الله عنه عهداً قطعه على نفسه مع المشركين، حتى لا يُنسب أحدٌ من أصحابه إلى الخيانة ونقض العهد.
قال النووي: ” في هذا الحديث جواز الكذب في الحرب، وإذا أمكن التعريض في الحرب فهو أوْلى، ومع هذا يجوز الكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وكذب الزوج لامرأته، كما صرح به الحديث الصحيح، وفيه الوفاء بالعهد”.
وقال الصنعاني: “(ونستعين اللهَ عليهم) أي: نستغني عنكما بإعانة الله على قتالهم، وقد أعانه الله فكان له الفتح العظيم يوم بدر”.
وقال ابن القيم: “ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين بغير رضاه أمضاه، كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم فأمضى لهم ذلك، وقال: انصرفوا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم“.
ترك الغدر فضيلة، وأفضل منه الوفاء بالعهد، لأن الوفاء بالعهد فيه ترك الغدر أيضاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفي بالعهد ولا يغدر، ويأمر أصحابه وقادة جيوشه أن يتركوا الغدر، فعن بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً ( في غزة من الغزوات) يوصيه في خاصة نفسه بتقوى الله، ويقول:اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تقتلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقض قوم العهد إلا سُلِّط عليهم عدوَهم) رواه الطبراني وصححه الألباني. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقدْ عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد، وإخلاف الوعد من علامات المنافقين، فقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري.
إن موقف النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر مع حذيفة رضي الله عنه وأبيه، وقوله لهما: (انصرفا، نَفِي بعهدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم) يعطينا صورة مشرقة من وفائه صلى الله عليه وسلم، الذي تعددت مجالاته، وتنوعت مظاهره، وكان لكل صنف من الناس ـ ولو كانوا من الأعداء المحاربين ـ نصيب منه.. فهل لنا نصيب من خُلُق الوفاء عند نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم؟