معالم مهد الرسالة الخاتم
مقدمة
ما أحوجنا كأمة إلى أن نعرف معالم ديننا القيم، الذي يحمل الكثيرون اسمه، ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة والتقليد، أكثر مما يجب أن يكونوا عليه من الفهم والسلوك، وأن يكيفوا حياتهم في دائرة الإذعان والخضوع، والانقياد والخشوع، لأمر الله ورسوله، حتى يكون التجرد الكامل لله، بكل حركة في الحياة، وحتى تكون تسبيحة التوحيد المطلق، والعبودية الكاملة، في إسلام لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير ولا في واقع الحياة.
وما أحوجنا أن نعتقد اعتقاداً جازماً يظهر أثره في كل ما نقول ونعمل، لأن المسلم – كما يراه شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال – لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار، بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه، فليس مقامه التقليد والإتباع، ولكن مقامه مقام الإمامة والقيادة، ومقام الإرشاد والتوجيه، ومقام الأمر الناهي، وماذا تنكر له الزمان، وعصاه المجتمع، وانحرف عن الجادة، لم يكن له أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره، ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور وينازله، ويظل في صراع معه وعراك، حتى يقضي الله في أمره، فالخضوع والاستكانة للأحوال القاسرة، والأوضاع القاهرة، والاعتذار.. من شأن الضعفاء والأقزام، أما المؤمن فهو بنفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد.
إقرأ أيضا:جغرافية مكة وموقعهاوما أحوجنا أن نعرف أننا خير أمة أخرجت للناس، لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، ومن ثم لا يجوز أن نتلقى من غيرنا ما يتعارض ومنهج الدين القيم، إنما يجب أن تكون لنا شخصيتنا الإسلامية في الاعتقاد الصحيح، والعلم الصحيح، وأن نقوم على صيانة الحياة من عوامل الفساد، وهذا يبعث في روح المؤمن بهذا الدين القيم إحساس العزة من غير كبر، وروح الثقة من غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تواكل، ويبعث الشعور بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهل المؤمنين، تبعة الوصاية على البشرية في أرجاء الدنيا، وتبعة القيادة في هذه الحياة لهؤلاء الضالين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، بما أتانا الله عز وجل من نور الهدى والفرقان.
وما أحوجنا أن ندرك أن العالم كان يعيش في جاهلية جهلاء، وفوضى عمياء، وظلمات بعضها فوق بعض، وأنه قد ظهر فضل هذه الأمة، وسهل فهم رسالتها في هذا العصر أكثر من كل عصر، حيث افتضحت الجاهلية المعاصرة، وبدت سوآتها للناس، واشتد التذمر منها، وتكلم الكثيرون عن ضرورة قيادة الإسلام، لو نهضت خير أمة أخرجت للناس، وارتفعت إلى مستوى النهوض بتكاليف تلك القيادة، وأدركت أن لتلك التكاليف تبعاتها، وأن القيادة لا تؤخذ قولاً، ولا تقبل ادعاء.. ولا يسلم لهذه الأمة بالقيادة إلا أن تكون أهلاً لها بالتصور الاعتقادي، والنظام الاجتماعي، والتقدم العلمي، والسبق في كل مجالات الحياة.
إقرأ أيضا:مناخ مكة المكرمةوهنا يفيض النور الهادي الوضيء، الذي يفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، ويسبح الكون كله في فيض هذا النور الباهر، الذي تعانقه وتتملاه العيون والبصائر، والذي يسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين، ونبصر كل شيء
يتجرد من كثافته وظله، فإذا هو انطلاق ورفرفة، وإذا هو لقاء ومعرفة، وإذا الكون كله نور طليق من القيود والحدود والسدود، تلتقي فيه الشعاب والدروب، والحواس والقلوب.
وتطالعنا حكمة الله عز وجل في أن يكون البيت الحرام أول بيت وضع في الأرض للعبادة، وخصص لها، وأن يكون مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات على أنه مقام إبراهيم عليه السلام، ومثابة الأمن لكل خائف.
وهنا نذكر (مكة المكرمة).. وطلائع الأسرار في بناء الكعبة البيت الحرام.. وأسرار اختيار الجزيرة العربية لتكون مكاناً لكثير من الرسالات.. ودعوة إبراهيم.. ومهبط الوحي.. والأرض المباركة التي قدر الله عز وجل أن تكون حرم الإسلام، ومعلمه الأول، وداره الأولى، وأن الشيطان قد أيس أن يعبده المسلمون فيها.. وأنها وقف في الإسلام على أهل الإسلام.. والدين القيم ينحاز إليها.
ونذكر كيف طلعت الشمس التي أفاضت نوراً جديداً، وحياة جديدة.. في وقت كانت الحياة كلها أقفالاً معقدة، وأبوابا مغلقة. ومع ذلك انحلت العقدة الكبرى.. وحدث أعظم انقلاب وقع في تاريخ البشرية.. وسرى نور الإيمان.. ورأى العالم كيف ظهرت خير أمة أخرجت للناس.. وكيف انتشر الدين القيم في أرجاء المعمورة.
إقرأ أيضا:الكعبة وخلق السموات والأرضكما تطالعنا معالم وسطية الأمة الإسلامية.. والإعجاز العلمي في إثبات أن الكعبة مركز العالم.. ومكانة الأمن والسلام.. وإكمال الدين وإتمام النعمة.. وعمارة المسجد الحرام عبر التاريخ الإسلامي.. ونفحات من هذا المكان، يضيق المقام عن ذكرها.
وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحمل التبعة، وتبذل التضحية، وتدرك معالم الطريق في أداء رسالتها المنوطة بها، ليتأكد خلوصها لله، واستعدادها للطاعة المطلقة، والقيادة الراشدة، لتنقذ البشرية من الشقاء والقلق والشذوذ والجريمة، وتقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد، لتبصر الإنسانية ميلادها الجديد، الذي يكون فاتحة العهد السعيد.
فكانت حكمة الله عز وجل أن تطلع شمس الهداية التي تبدد الظلام، وتملأ الدنيا نوراً وهداية، من أفق جزيرة العرب.
والجزيرة من حيث الاسم – كما نرى – مضافة إلى العرب لا غير، ويطلق عليها (جزيرة العرب)، و (أرض العرب)، و (بلاد العرب)، و (ديار العرب )، ويقال الآن (الجزيرة العربية)، و (شبه جزيرة العرب)، و (شبه الجزيرة العربية).
ونذكر خصائصها فيما يلي:
البيت الحرام:
اقتضت حكمة الله أن يكون البيت الحرام أول بيت وضع في الأرض للعبادة، وخصص لها، وأن يكون مباركاً وهدى للعالمين، يجدون عنده الهدى، وفيه آيات بينات على أنه مقام إبراهيم عليه السلام، وأنه مثابة الأمن لكل خائف، وليس هذا لمكان آخر في الأرض.
قال تعالى:
((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:96]
((فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [آل عمران:97]
والبيئة الطبيعية للرسالة الخالدة والرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم هي الجزيرة العربية بوجه عام، سماؤها، وأرضها، شمالها وجنوبها، جبالها ووديانها، نجودها وتهائمها، وبوجه خاص شمال تلك الجزيرة المعروف بأرض الحجاز، وبوجه أخص (مكة المكرمة) من أرض الحجاز.
والتاريخ الطبيعي عرف للجزيرة العربية في جملتها خصائص شاملة تشترك فيها جميع أجزائها، وعرف بعد ذلك خصائص فصلت الجنوب عن الشمال، كما عرف خصائص امتازت بها أرض الحجاز، وخصائص امتازت بها مكة المكرمة في موقعها من أرض الحجاز.
عاصرت تلك الخصائص الجزيرة العربية مفرقة بين شمالها وجنوبها آماداً طويلة، وأحقاباً متعددة، تدخل مع التاريخ في أعماقه البعيدة، حتى تقف معه عند مجاهل العصور التي لم تتبين له معالمها، ولم تزل تمخضها الحوادث، وتدافعها الأحداث، وتمر مع الزمن في أطوار طبيعية، حتى تبلورت إلى صورة واحدة مشت بالجنوب إلى الشمال، فمزجته به في خصائصه، حتى صار كأنه هو، جدباً وشظف عيش، وقسوة طبيعة، وجفوة حياة، وعبوس جو، ولفح سموم، وكثرة تقلبات، وقلق إقامة، وتطلعاً إلى السماء، رجاء غيث، وتوثباً في أرجاء الأرض، طلباً لمرعى أو قطرة ماء.
وهي بعد ذلك بيئة تدرع الليل، وتأنس بالوحش، وتستضيء بالنجوم، وتطرب لصوت الرعد، يكتنفها فضاء لا نهاية له، وتظلها سماء لا تستقر على حال، تصفو مرة فتلمح بالليل نجومها، وتضحى بالنهار شمسها، وتغيم مرة فيسود أديمها، وتتوارى كواكبها، وتحتجب شمسها، ويكفهر أفقها، ويتجهم منظرها، أكنافها الجبال، ومسارحها الوديان، لا صناعة تشذب من مظاهرها، ولا زراعة ترفه من جوها، وكل الأمل المرجو منها مرعى تجود به الطبيعة، لتحيا عليه قطعان من إبل وشاء، عليها قوام تلك البيئة القاسية. وقد اشتهر ذلك عن الجزيرة العربية، حتى عرفه جيرانهم من الفرس والرومان، فزهدوا فيها مع طغيان روح الاستغلال الاستعماري في الدولتين.
هذه الخصائص الطبيعية كانت خلاصة ما انتهت إليه الأحداث الضخمة، والحوادث الهائلة، التي انتابت الجزيرة العربية في مدى الأحقاب المتوغلة في مجاهل التاريخ، تجمعت من أرجائها كلها، وتلاقت في شمالها من أرض الحجاز، فكانت -فوق أنها خصائص الجزيرة منذ بدأ إنسياح القبائل الجنوبية إلى الشمال طلباً للعيش عقب انهيار سد مأرب وتخريب عمران اليمن- هي في الوقت ذاته خصائص بلاد الحجاز منذ عرفها التاريخ.
(مكة المكرمة):
أما (مكة المكرمة) بلد الرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم، وبيئته اللصيقة به، فسمها قرية أو مدينة أو ما شئت من أسماء الأمكنة التي كانت موئلاً لاستقرار قبيل من الناس، يضطربون فيه طلباً لوسائل الحياة والعيش، فيتسع لهم ويعطيهم ما تسمح به طبيعته، ويظهر أن أمر هذه التسمية يرجع إلى العرف ومصطلح الناس، وقد يختلف باختلاف الأزمنة والعصور، والقرآن الكريم أطلق عليها (بلداً (، وسماها مرة (قرية)، ومرة أخرى سماها (أم القرى)، وأصول الاجتماع لا تأبى عليها اسم (المدينة).
ومهما يكن من أمر ذلك كله، فإنها منذ كانت عاصمة الحجاز من غير منازعة ولا مزاحمة، وإطلاق اسم المدينة عليها أقرب إلى تسمية القرآن لها (أم القرى) وأدنى ما عرف لها من مكانة واحترام قبل البعثة المحمدية، وأشبه بما صارت إليه في الإسلام من منزلة دينية واجتماعية.
يقول ابن القيم عند تفسير قول الله تعالى:
((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)) [القصص:68].
ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه، من القرب والبعد، من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا.
وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى:
((وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)) [التين:3]
وقال جل شأنه:
((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)) [البلد:1]
وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه، غير الحجر الأسود، والركن اليماني.
يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول:
{والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت}.
تلك المدينة التي كانت مسقط رأس الرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم، وموطن أسرته، ووطن قبيلته، وصفها القرآن الكريم على لسان خليل الله إبراهيم عليه السلام في قوله جل شأنه:
((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) [إبراهيم:37].
وهذا أصدق وصف، وأجمع كلمة لخصائصها الطبيعية، فكلمة (واد) تصور أتم تصوير وضعها من الأرض، فهي منخفض تحيط به الجبال، وكلمة (غير ذي زرع) تعطيك أن هذا الوادي له طبيعة شحيحة أشد الشح بالماء، فهي لا تكاد تجود به نبعاً، وإذا جادت به غيثاً تفرق في غير كبير فائدة، وتعطيك نتيجة لذلك جدوبة الأرض وقحولتها، وتعطيك يبس الطبيعة وقسوتها، وتعطيك شظف الحياة وبؤس العيش، وتعطيك صرامة الجو، ولفح السموم، وهو وصف في جملته يدخل على النفس يأساً، قلما أن تجد وسيلة من وسائل العيش الرغيد، أو سبباً من أسباب الكسب الربيح، في هذا البلد السجين بين شاهقات الجبال.
بيد أن (مكة المكرمة) بلد الرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم لم تستسلم للطبيعة تحبسها في واديها الأجرد، بين جبالها السود المكفهرة القاسية، بل تداركتها العناية الإلهية، فأهدت إليها (الكعبة) بيت الله الحرام، فصارت بها (مكة المكرمة) بلد الله الحرام، والذي أقام الكعبة – كما سيأتي – إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإبراهيم جد العرب الذي تنتهي إليه مفاخرهم، وإسماعيل أبوهم، وقد تعرب منذ كان، فلم يعرف غير العرب شعباً، ولا غير الجزيرة وطناً، ولا غير (مكة المكرمة) بلداً، فحفظ الأبناء تراث الآباء، ووعى الأحفاد ذخيرة الأجداد.
وعظم العرب (الكعبة البيت الحرام)، وعظموا لتعظيمها، واتخذوها حرماً آمناً يقدسونه، ويتحاملون فيه المآثم، وينزهونه عن وقوع المظالم، ويؤمنون فيه الخائف، ويجبرون الكسير، وينصرون المظلوم، ويخافون الظلم فيه..
يحجون إليها – كما سيأتي -، ويجتمعون في مواسمها، يتعبدون ويتجرون، ويجلبون إليها الأرزاق والسلع، ويتبادلون ذلك فيما بينهم، فيصدر عنها من وردها بغير ما ورد، ويردها من صدر عنها بغير ما صدر، ثم اتخذوها مناراً لإذاعة مفاخرهم، ومحكمة لتحاكمهم، وملجأ لضعفائهم، وملاذاً يلوذ به أصحاب التبعات والجرائر منهم، ومصدراً لمحالفتهم وتعهداتهم، ووضعوا لذلك سنناً متبعة لا يحيدون عنها، ونظاماً مأثوراً يأثره الخلف عن السلف، من غيره أو انتهك حرمته فقد جاء بإحدى الكبر.
وهكذا أصبحت (مكة المكرمة) شيئاً آخر، غير كونها وادياً محصوراً بين الجبال، فقد أصبحت متعبد العرب قاطبة، تهفو إليها قلوبهم تحنثاً فيها وتعبداً بالطواف حول بيتها المحرم، يقدسونها تقديساً لا يفوقه تقديس، ويفدون بيتها المعظم بالمهج والأرواح.
قال الشاعر: محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال قال ابن القيم: أخبر سبحانه أنه مثابة للناس، قال تعالى:
((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125].
أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يمضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا اشتياقاً: لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح، وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح، ورضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتآلف، والمعاطف والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه، ويراه – لو ظهر سلطان المحبة في قلبه – أطيب من نعم المتحلية وترفهم ولذاتهم.
وليس محباً من يعد شقاءه عذاباً إذا ما كان يرضى حبيبه وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله:
((وَطَهِّرْ بَيْتِيَ)) [الحج:26]
فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم، فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه، فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلاً آخر، وتخصيصاً وجلالة، زائداً على ما كان له قبل الإضافة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: كذلك ما خص به (الكعبة الحرام) من حين بناه إبراهيم، وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقيره وانجذاب القلوب إليه، ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم، ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان، والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع، ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها، ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء، ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس، بل كثيراً ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله، ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوي إليه ما لا يعلمه إلا الله.
وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض، حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة، ومن ثم نجدهم هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس.
وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر، وقوى نفوسهم وأبدانهم، والذي بناه قد مات من ألوف السنين.
وإذا كان العرب لم ينسوا الله في وثنيتهم، وأنهم قد أشركوا، فإن السبب يرجع إلى أن الأصل عندهم هو التوحيد، كما تلقوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والذي كان بقية مما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهما السلام.
وإذا كانت الإنسانية قد عاشت حياتها في حمأة الوثنية الهابطة، وإذا كان عند كل أمة من أمم الجاهلية الأولى آلهة شتى تعبد من دون الله، فإن التاريخ قد استيقظ من غمرات غفلاته، وحزم تراثه وحمله على مناكبه، وسار به في سرعة خاطفة، ميمماً مشرق الشمس، حتى إذا بلغ (الربوة الحمراء) في فيافي الجزيرة العربية، ألقى عن كاهله أثقاله.
{الله لا يضيع أهله}:
والجزيرة العربية يومئذ في عزلة موحشة، ونسيان شرود، ولكن ضربات المخاض القاسية التي كانت أناتها بانفراجها عن الحدث الجليل ذكرت التاريخ بها، فذهب إليها وهو يلهث مكدوداً، وألقى بثقله في أحضانها، على ربوتها في أرض (أم القرى)، وغط في نوم قلق مليء بالرؤى وأضغاث الأحلام، رجعاً لصدى ماضيه السحيق.
وعلى حفيف أقدام خافت في رمال الصحراء تيقظ من غفوته، وانتبه من غفلته، فانبعث من مرقده متكاسلاً يتمالى ويمسح عن عينيه رماص الكرى، وإذا به مع نفسه وحيداً إلا من طفل في مهده يضغو من شدة العطش، وإلى جانبه أم رصينة، لهفانة، لا تستقر نظرتها على شيء، حتى على طفلها المتضاغي في مهده، كأنها تخاف أن تنظر إليه، بيد أنها كانت تنوء تحت وطأة الآلام تعصر قلبها، وتحرق كبدها، كلما حرك الطفل قدميه يفحص بهما رمال الصحراء، كأنه يطلب شيئاً أودعه له فيها حفيظ أمين وانفجرت الرمال عن الوديعة، فإذا هي (زمزم) عين لا تغيض.
وصدق إلهام (هاجر) حين قالت لإبراهيم الذي جاء بابنه مع أمه إلى هذا الوادي الأجرد اليابس، فيما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:
{آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا}.
وحين كانت زمزم عيناً معيناً، شربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: {ألا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله} .
وعلينا أن نتصور هاجر ومعها طفلها، ولا أنيس ولا جليس، ونتصور الكلمات التي قالتها كما هي، حين أراد إبراهيم أن يرجع، ويتركها وطفلها في هذا الوادي، وقد علمت أن ذلك بأمر الله تعالى، ومن ثم فإن شدة الموقف التي تعجز الكلمات عن تصويرها لا وجود لها ما دام الأمر من الله، والله لا يضيع أهله.
أجل، يا أم إسماعيل: لن يضيعكما الله، وفي صلب وليدك وديعة الوجود، وهداية السماء إلى الحياة بمن فيها وما فيها.
أجل، يا أم إسماعيل: إن الله تعالى سيجدد بوليدك صادق الوعد ديباجة الحياة، وسيخلع عليها من جلابيب الفيض السماوي ما يحول ظلامها نوراً، وجبالها مآذن، وهضابها منابر للهداية، ووديانها مساجد يتعبد في محاربها الموحدون، وآفاقها مراتع للحرية الإنسانية، يرتفع في مسارحها المؤمنون بقداسة الحياة، وتتفلق صخورها عن سر الأسرار في هذا الوجود، عن النور المخبوء في مشكاة كنز الغيب، عن كلمة الحق وأمانته، منذ كان آدم بين الطين والماء.
صبراً أم إسماعيل، إن إبراهيم عليه السلام خليل الله، وله مع ربه مناجاة ومصافاة، وفي المناجاة أسرار وأسرار، وفي المصافاة أضواء وأنوار، سوف تتفجر عنها رمال الحياة، كما انفجرت عن زمزم رمال الصحراء.
أجل، يا أم إسماعيل، لقد جيء بك وبوليدك إلى هنا لتؤديا أمانة الله إلى الحياة، في هذا الوادي (الصديان) لتكون الآية الإلهية أضخم من تراث التاريخ كله، في فلسفته وعلومه ومعارفه، وتجاربه وأنظمته، منذ وعى التاريخ حقيقة الحياة.
وافتر ثغر (هاجر) عن ابتسامة الرضى، وهي ترى هذا الوادي الأجرد المقفر يجذب إليها لثاماً من الناس، كانوا يمرون به من قبل، فلا يجدون فيه أثراً للحياة.
طلائع الأسرار في بناء (الكعبة المشرفة):
وشب إسماعيل وترعرع بين أطفال جرهم وشبابها عربياً خالصاً، ولما استوت رجوليته أصهر فيهم إلى سيدهم، وجاء إبراهيم خليل الله زائراً ولده، ولقي إسماعيل أباه، وتحدثا حديث حنان الأبوة، ووله البنوة، وأفضى خليل الله إلى ابنه إسماعيل بسر الحياة في رمال الصحراء التي كان قد أودعه فيها مع أمه في هذا الوادي الأجرد، ليؤديا أمانة الله إلى الحياة.
ونبأه بأمر الله في بناء بيته، وقد بوأه الله مكانة من الربوة الحمراء، وبنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (الكعبة المشرفة) بيتاً لله تعالى، ليكون رمزاً إلى الحقيقة الكبرى في الوجود، حقيقة التوحيد في التوجه إلى الله الواحد الأحد، وتضرع خليل الله ودعا، وأمن إسماعيل، أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إلى ذريته في جوار هذا البيت المحرم:
((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [إبراهيم:37]
وهذه ضراعة داعية تنساب من قلب خليل الله إبراهيم، لجوءاً إلى أرحم الراحمين، أن يجعل من هذا الوادي الأفيح المقفر اليابس، بلداً عامراً بذرية هذا الوليد الذي جاء به إلى هنا وحيداً إلا من أمه الراضية الوالهة، استجابة لأمر الله تعالى، ولما يعلم الخليل ما كتبه قلم القدر الحكيم في لوح الكون من أسرار تحجبها رمال الصحراء في هذا الوادي، ولكن إلهام (الخلة) في وحي النبوة ألقي إليه كلمة الله في رسالة التوحيد، تلك الرسالة التي حاف عليها تاريخ المجتمع البشري، فلم تجد له في تراثه إلا سم الخياط منفذاً تنسرب منه، متسللة في مسارب الحياة.
وكانت هذه الضراعة الداعية دعوة عامة، تستهدف الاستقرار والأمن، وجلب الرزق لذرية إسماعيل، وتبرز ما استسر وراء سجف الغيب من تجليات وأحداث، تجعل من إسماعيل دوحة تلقي بظلال أفنانها على جنبات الوادي الأجرد، فتحيله حياة حية خالدة، تهوي إليه الأفئدة من أطراف الأرض، هائمة وآلهة بحب الحقيقة الكبرى في رمزها العظيم (الكعبة المشرفة):
((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) * ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج: 26- 27]
واستجاب إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لأمر الله، وطهرا بيت ربهما الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً:
((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125]
طهراه من رجس الوثنية التي أثقلت كاهل التاريخ على طول مسيرته في حياة المجتمع البشري، ونادى إبراهيم في الناس بالحج إلى بيت الله، وأبلغ الله النداء إلى أهله في عالمي الغيب والشهود، وأتوا من كل فج عميق، وأوب سحيق – كما سيأتي – ملبين دعوة ربهم على لسان خليله إبراهيم، يتداولون عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل، تحقيقاً لوعد الله بقبول دعاء إبراهيم وإسماعيل:
((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127]
ونبصر التعبير هنا يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود،يرسمه مشهوداً كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن.. ونبصره يبدأ بصيغة الخبر:
((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)) [البقرة:127].
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين.. إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان:
((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127].
وهنا نذكر ما جاء في الحديث السابق الذي رواه البخاري في أمر الله عز وجل ببناء البيت من حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه السلام قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً – وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها – قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:
((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127].
قال: فجعلا يبنيان، حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان:
((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127].
إننا نبصر الدعاء، وجو الدعاء.. كأنه يقع الآن حياً شاخصاً متحركاً ناطقاً مبتهلاً.. وذلك في رد المشهد الغائب الذاهب، إلى الحاضر يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض منه الحياة. ونبصر في ثنايا الدعاء أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود.. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن الكريم أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم وخواطرهم بهذا الإيحاء:
((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127].
إنه طلب القبول، وهذه هي الغاية، فهو عمل خالص لله، الاتجاه في قنوت وخشوع إلى الله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضا والقبول، والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء، عليم بما وراءه من النية والشعور.
ونبصر تضامن الأجيال في العقيدة:
((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:128].
إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام، والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الهدي هداه، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، والله المستعان.
ثم هو طابع الأمة المسلمة.. التضامن.. تضامن الأجيال في العقيدة.
وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن، فأمر العقيدة هو الشغل الشاغل، وشعور إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقيمة النعمة التي أسبغها عليهما، نعمة الإيمان، تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام، لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات، ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان، وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم بما أنه هو التواب الرحيم.
وتزاحفت القرون والعصور متواثبة، وهي تطوي بساط التاريخ، وتسوق الأجيال، جيلاً إثر جيل، وبلغت دعوة إبراهيم العامة مداها في الانتشار، وتكاثر ولد إسماعيل، حتى كانوا غمرة العرب وجمهرتهم، وسادوا وتسيدوا، وتشعبوا وتفرعوا، ملؤوا السهل والجبل، ونزلوا الوديان، وتسنموا المكانة الرفيعة.
بيد أنهم إذ كثر عددهم، نسوا دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وهم في غمرة الحياة الجاهلة، وجهلوا منها الحقيقة الكبرى، حقيقة التوحيد، وأوغلوا في وثنية بليدة، وكانت الوثنية الأولى يضاهئون بها وثنية فجور من قبلهم في أمم الفلسفة الضالة.
دعوة إبراهيم عليه السلام:
وتنفس الغيب، وبدت إشراقة الفجر الجديد، ترسل أشعتها من أفق (الربوة الحمراء)، وتعالى صوت الحق في ترنيمة الرسالة العظمى، رسالة التوحيد والعلم والطهر، علم الكتاب والحكمة، لا علم الهلوسة والفلسفة الضالة، ورتل القدر مرة أخرى ضراعة أخرى للخليل في دعوته الخاصة، بعد أن حقق الله له دعوته العامة، وكانت هذه الدعوة الخاصة هي ميراث الحياة في خلة الخليل، والعنوان المشرق في ملته الحنيفية، والكلمة الباقية من نبوته ورسالته، وجاء ت هذه الدعوة متوافقة تمام التوافق مع نفس الغيب في إشراقة الفجر، وكان الإلهام سر الوجود في ضراعة خاصة، يطلب بها إظهار مكنون الغيب حين يحين الحين:
((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [البقرة:129]
وكانت الاستجابة هي بعثة خاتم النبيين الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم بعد قرون وقرون، بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويطهرهم من الأرجاس والأدناس، ولهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان شجر بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف، فإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا وهما يرفعان قواعد البيت باللسان الصريح:
((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [البقرة:129]
وهما بهذا يقرران وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم، ووراثتها للبيت الحرام سواء.
يروي الحاكم وغيره بسند صحيح عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ فقال:
{ دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى، وبصرى من أرض الشام}
أنبياء في الجزيرة:
وكانت الجزيرة مكاناً لكثير من الرسالات، ومن ثم فبعثة خاتم النبيين في الجزيرة لم تكن وحيدة، فهذا هود عليه السلام أقدم من إبراهيم عليه السلام، كان من قوم عاد، وكان موطنها الأحقاف، والحقف: ما استطال وأعوج من الرمل ، وكانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة:
((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [الأحقاف:21]
وقد قالوا إنه كان أول نبي بعد نوح عليه السلام – الحلبي 1388هـ – 1968، وابن كثير: البداية: 2: 275 قال: قال ابن إسحاق: حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك؟ قال: { نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر…}، الحديث. ثم قال: وهذا إسناد جيد قوي، وابن إسحاق قال: وحدثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم، ولا أحسب إلا خالد بن معدان الكلاعي، أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ قال: (نعم …. الحديث. السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 219 – 220 مكتبة المنار، الأردن، ط. أولى 1459هـ – 1988م، وأحمد عن أبي أمامة قال: قلت: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: { دعوة أبي إبراهيم…} الحديث: 5: 262، وابن سعد: 1: 102، وإسناده حسن كما قال الهيثمي، وله شواهد تقويه: مجمع الزوائد: 8: 222، وانظر: الطيالسي: منحة المعبود: 2: 86، وفي سنده فرج بن فضالة، والطبراني في الكبير: 8: 175 (7729)، والأصبهاني في دلائل النبوة: 1: 239.
((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الأعراف:69] * ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) [الأعراف:70].
وهذا النص يومئ كما يقول المرحوم الشيخ أبو زهرة : إلى أن هوداً جاء من بعد نوح، وأن قومه كانوا خلفاء من بعد نوح، ويشير من جهة أخرى إلى أن قوم نوح كانوا في أرض العرب، كما كان خلفاؤهم.
وإن عادا كانوا من أقوى قبائل العرب منعة، وأقواها شكيمة، ولكن كانوا أشد غروراً، كما قال الله تعالى عنهم:
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15] * (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) [فصلت:16].
وكذلك صالح نبي ثمود، وكانوا عرباً يسكنون الحجر، الذي بين الحجاز وتبوك.
كان يدعوهم نبيهم إلى التوحيد، وكانت بينته ناقة لا يمسوها بسوء، وإلا كانوا خاسرين:
((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [الأعراف:73]
ولقد كان قوم صالح من بعد عاد وقوم هود، إذ كانوا خلفاءهم، وكانوا أقوى قوة، وأكثر عدداً:
((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) [الأعراف:74]
ولكن ثمود بعدت عن أمر ربها، واعتدوا على صالح، فنزل عليهم عذاب واصب أبادهم.
وقد كانت ديارهم أطلالاً هامدة، وآثاراً باقية، تذكر بغضب الله على من كذبوا رسله، وتعجلوا عقابه، وقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما:
{أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء} وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر، قال: { لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم ثم تقنع بردائه وهو على الرحل}.
ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعث على التفكير والاعتبار، عند المرور بقبور الظالمين، وبما أصابهم، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتحذير من الغفلة عن ذلك، حتى المياه التي كانت في آبار هؤلاء نهى الرسول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم عن استعمالها، وحتى لا يغفل المسلمون عن مواطن العظة، وألا يستهينوا بما خلا قبلهم من مثلات.
وجاء شعيب بعد إبراهيم وبعد لوط، وقيل إنه بعد يوسف عليهم السلام، ومن المؤكد أنه جاء بعد لوط، لأنه جعل من إنذاره لقومه أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط:
((وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)) [هود:89]
وهذا يدل على أمرين:
الأول: أن مبعث شعيب عليه السلام كان بعد مبعث هود وصالح ولوط، فقد جعل في بيانه ما حدث لأقوام هؤلاء من عذاب دنيوي ماحق، كان موضع إنذار لهم.
الثاني: أنه يدل على أن قوم لوط كانوا في العرب، ولذلك قال:
((وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)) [هود:89].
فهم كانوا على مقربة منهم، وكانوا مثلهم في أطراف أرض العرب من ناحية الشام.
وهنا نذكر أمرين:
الأول: أنه بعث لمدين، وهم أهل الأيكة، فقد كانوا يعبدون شجرة عظيمة هي الأيكة، وهم أصحاب يوم الظلة، أي سحابة ظللتهم، فلما اجتمعوا تحتها التهبت عليهم ناراً وأحرقتهم.
كما أصابتهم الرجفة والصيحة.
وهي عقوبات متتالية، أرهقتهم الذلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتى فروا من أماكنهم، فجاء تهم الغمامة فرجوا أن يستظلوا، أو أن يجدوا فيها الرحمة، فكانت الصيحة العنيفة، وكانت الرجفة التي أصابتهم.
وقد استحقوا هذه الأنواع من العقوبات، والأصناف من المثلات، والأشكال من البليات، لما اتصفوا به من قبيح الصفات، حيث سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عنيفة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
الثاني: أن أهل مدين جمعوا مع عبادة الشجرة فساد الأخلاق وسوء المعاملات، حيث كانوا يطففون في الكيل والميزان، وقطاع طريق.
الجزيرة مهجر المضطهدين:
هذا، وقد اختصت الجزيرة العربية بالرسالات الأولى، رسالة إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وكان لإبراهيم رفع القواعد من البيت وإسماعيل – كما أسلفنا -، وكان شعيب قد بعث في مدين، وانبعث منها نور رسالة موسى.
كما كانت مهجر اليهود عندما نزل بهم الأذى، ولجأت النصرانية إلى أرض نجران، فراراً من حكم القياصرة.
وقد يسأل سائل: لماذا كانت الجزيرة مهجر المضطهدين عندما نزل بهم الأذى، وحل سوء العذاب؟
والجواب عن ذلك:
أولها: أن البلاد العربية ليست بلاداً متوحشة، كما يتوهم الذين يحكمون بغير بينات، أو الذين يرمون الكلام على عواهنه، أو الذين يتجنون على الحقائق مغرضين غير منصفين، إنما هي بلاد فيها ذكاء ونفوس صافية كصفاء سمائها، وقوة الاستجابة فيها متكافئة مع قوة المقاومة.
الأمر الثاني: أن الجزيرة مع ذكاء أهلها لهم في عقولهم معتصم، حتى وهم يعبدون الأوثان التي أغرموا بها إغراماً شديداً، وصارت جزءاً من مداركهم وعقولهم، وأصبحوا يستنصرون بالأحجار، ويظنون أنها تجيب عن سؤالهم، حتى وهم على هذه الحال لم ينسوا الله في وثنيتهم.