الرسالات السماويّة
عندما خلقَ الله آدم – عليه السلام – ونفخ فيه الروح أخرج من صُلبه كلَّ ذريّته إلى يوم القيامة، وأشهدَهم على أنّهُ هو الله لا إله إلا هو، ولا شريك له، وبأنّهُ هو المُستحقّ للعبادة، فلا تكون حجّة لأحد أن يَكفُرَ بالله بعد ذلك، وهذهِ الشهادة التي شهدتها البشرية لله – جلّ جلاله – في عالم الغيب هي الفِطرة الراسخة التي وُلِد الناس عليها، فما من مَولود إلاّ ويُولَدُ على الفطرة، كما قال المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في الصحيح: (ما من مولودٍ إلا يولَدُ على الفَطرَةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه)، فتتردّد روحُ الإيمان وتدور في ذهن الإنسانِ بوجودِ الخالق مهما كانت عَقيدته وديانته، وهذا هو الدليل البديهيّ المُتأصّل في الإنسان على توحيد الله ووحدانيته، وهو داعي الإيمان الخفيّ في قلبه.
مع وجود الفطرة الإيمانيّة لدى الإنسان إلاّ أنّ الله عزَّ وجلّ برحمته وعظيم إرادته الخير للبشر أرسل الرُسُل من عنده بالرّسالات ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله وتوحيده ونبذ ما يُشركونَ معهُ جلَّ جلاله من آلهة لا قِبل لهم بشيء، وقد أرسل الله – سبحانه وتعالى – من الرُسل ما أقامَ بهِ الحُجّة على الناس، حيث لم تخلُ أمةٌ من رسول، ففي بني إسرائيل كانَ كُلّما ماتَ نبيّ قامَ نبيّ بعده، وقد جاء بعض الرسل والأنبياء بالرسالات والشرائع، وسُمّي أقوامهم بناءً على ذلك أهل الكتاب، فمن هم أهل الكتاب؟
إقرأ أيضا:ما هي سقرمن هم أهل الكتاب
أهل الكتاب عند الفقهاء
اختلف العلماء في المقصود بأهل الكتاب على عدة أقوال، فمن العلماء من عدّ أن تلك اللفظة خاصةٌ بمن يؤمن بكتابٍ سماوي بذاته، وذهب آخرون إلى أنّ أهل الكتاب هم القوم الذين أرسل إليهم النبي عموماً ولا تشمل من آمن بذلك النبي من غيرهم من الأقوام، وبيان ذلك فيما يلي:
- ذهب فقهاء الحنفية إلى أنّ المراد بأهل الكتاب: كلّ من يؤمن بنبي ويقر بكتاب وديانة سماوية، سواءً بذلك أكان ذلك النبي مبعوثاً بالرسالة لقومٍ مُعيّنين أم أنه أرسل برسالةٍ عامة، ويدخل في أهل الكتاب اليهود والنصارى، ومن آمن بزبور داود – عليه السلام – ومن آمن بصحف إبراهيم – عليه السلام – وذلك لأن من آمن بتلك الكتب إنما هم يؤمنون بدينٍ سماوي منزلٍ بكتاب.
- ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنّ المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى بجميع فرقهم وجماعاتهم المختلفة ومن دخل في معتقدهم وآمن به دون أن يشمل ذلك غيرهم ممّن لا يُؤمن إلا بصحف إبراهيم وزبور داود، واستدلّ الجمهور على ذلك بقول الله تعالى: (أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ)، فلا يعتبر جمهور الفقهاء أنّ من أهل الكتاب إلا اليهود والنصارى، وإلى ذلك ذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم من المفسرين، وأمّا باقي الديانات التي جاء بها الأنبياء ونقلوا إلى البشرية شيئاً عن السماء كصحف إبراهيم وصحف داود فقد كانت تلك النقولات مواعظ وأمثالًا لا غير، ولم تأتِ فيها أحكامٌ يَجب الالتزام بها، فلم يَثبت لها حكم الكتب السماوية الأخرى المُشتملة على أحكام وتكاليف كالتوراة والإنجيل. قال الشهرستاني: (أهل الكتاب هم الخارجون عن الملة الحنيفية، والشريعة الإسلامية، ممن يقول بشريعة وأحكام وحدود وأعلام ، وما كان ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان يُسمّى كتابًا، بل صحفًا).
أهل الكتاب في القرآن الكريم
ذكر القرآن الكريم أهل الكتاب في العديد من المواضع والأحوال، وكان لذكر لفظ أهل الكتاب في القرآن عدداً من المَعاني والدلالات، كما يشير ابن قيّم الجوزية، ومن تلك الدلالات:
إقرأ أيضا:ما هي ايام التشريق- ذكر أهل الكتاب في معرض المدح فقط: ومثال ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، فقد مدح الله – سبحانه وتعالى – أهل الكتاب في هذه الآية، ووصفهم بأنهم يتلون الكتاب الذين أوتوه حق التلاوة، وأنهم يؤمنون بالكتاب ولا يَكذبون به أو يُحرّفونه.
- ذكر أهل الكتاب في معرض الذم فقط، ومثال هذا القسم قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ)، فقد ذمّهم لعدم أخذهم بحكم الله الوارد في الكُتب المنزلة إليهم، وأنّهم يعرضون عن أوامر الله ولا يدينون دين الحق.
- ربما يتناول لفظ أهل الكتاب المدح وقد يتناول الذم، ولكنه في الذم أكثر كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا).
- أن يعمم النداء ليشمل جميع أهل الكتاب سواءً بذلك الممدوح منه أو المذموم، كقول الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)، وكقوله تعالى: (منْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ). فذلك مثالٌ على الفريق الممدوح من أهل الكتاب، ومثال المذموم منهم قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).
- ذكر أهل الكتاب على سبيل الأمر والنهي وذلك بالتحديد بلفظ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)، ومثاله قول الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)، فهنا يدعو الله سبحانه وتعالى بواسطة نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – أهل الكتاب الذين يشركون بوحدانية الله إلى التناظر والتحاجج بالدليل والبرهان، وكقوله تبارك وتعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا)،[ وهنا يأمر الله – سبحانه وتعالى – أهل الكتاب من المسيحيين على وجه الخصوص بعدم الغلو في الدين بأن يقولوا على الله – سبحانه وتعالى – ويصفون له الأباطيل والأكاذيب بأنّ له زوجة أو شريكاً في الملك أو ابن، أو غير ذلك من الشركيات عند المسيحيين، وأمرهم بالإيمان به وحده والإيمان برسله الذين أرسلهم بتوحيده وتقديسه عن الابن والشريك