التوبة
تُحتِّم إنسانيَّة البشر على ذَواتهم استعجالَ الخير وحُبَّ الدُّنيا والتعلُّقِ بشهواتها، وطبعُ الآدميِّ خطَّاءٌ يميلُ إلى الأمور الممنوعة، ومهما يكن من أمرهِ صِدقُ التزام الخير والترغُّبِ فيهِ فإنَّه لا يَنفي عن ابنِ آدمَ استِحبابُ المعاصي، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَوَّابونَ)،[١] ومن رَحمةِ اللهِ بِعبادهِ أن تَركَ لهم باباً للتّوبة مفتوحاً لا يُغلقُ حتَّى ترجعَ الرُّوح إلى خالِقها، وطريقاً للعودةِ إلى طريق الله مُمَهّداً مهما بلغَت النَّفسُ من الذُّنوب والآثام.[٢]
حقيقة التَّوبة
التّوبةُ في اللّغة هي العودة عن الذّنب والإقلاع عنه وتركه، والمَصدر تَوَب يعني التّرك والعودة، أمّا في الاصطلاح فهي تركُ الذّنب لقبحه والنَّدمُ على فعله، وبذلُ الجهدِ للتّكفير عنه والعزيمة على الإقلاع عنه، وإبداله بالأعمال الصَّالحة؛ تقرُّباً إلى الله واستِدراكاً لمَغفرته ورضوانه، والتّوبة أبلغ وجوه الاعتذار وأسمى درجاته، وفيها اعتِرافٌ باقتراف الذّنب أو المُخالفة والنَّدمُ عليها، والعزيمة على الإقلاع عنها دون تبرير أو إنكار،[٣](قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[٤]
الثبات على التَّوبة
إنّ الثبات على التَّوبةِ مسألةٌ يسيرة لا تثقل على قاصدها ولا تُجهده، إنَّما تتمثَّل بأفعالٍ وسُلوكاتٍ بسيطةٍ مُعتادةٍ تقطع حبلَ الذُّنوبِ والمَعاصي، وتَصِلُ باب مُراقبة الله والتطبُّعِ بأوامره واجتنابِ نواهيه، وتكون الثبات على التوبة باعتزال المَعاصي والعزم على هجرانها، ومحاسبة النَّفس، وصدقُ النيَّة في تحقيق التَّوبة وإخلاصها لله تعالى وحده دونما طمعٍ في مصلحة دنيويّةٍ أو ماديّةٍ، ثم تذكير النَّفسِ بِعظَمة الله وجميلِ نِعمِهِ، وتدبُّرِ عواقب الذّنوب ومصير المُذنبينَ، وإشغال النَّفسِ بما يَنفعُ من أعمالِ الآخرة وواجباتِها ومتطلَّباتِ الدّنيا المشروعة رغبةً في الأجر، وهروباً من الفراغ ومواطِنِ الشَّيطان.[٥]
إقرأ أيضا:كيف أدعو شخصاً للإسلاممن الطرق التي يُمكن أن يَتَّبِعُها المُسلم التائب للثبات على توبته، ما يأتي:[٦]
*استشعار الأجر العظيم؛ فقد أعدّ الله سُبحانه وتعالى للتائب أجراً عظيماً إذا تَابَ توبةً صادقةً، ونَدم على جَميع الذّنوب والمعاصي التي ارتَكبها سابقاَ.
- هجر الذنوب، والمعاصي التي اعتاد على ارتكابها فوراً؛ فالحَزم في ترك الذنوب والمعاصي من دواعي الثبات على التوبة، وعدم التّردد بها، ثم عدم العودة بعد ذلك لهذه الذنوب والمعاصي.
- هجر كلّ ما يُمكن أن يُعيد التائب إلى المَعاصي والذنوب، ومن أهمّ ما يَجبُ على التائب الذي يَرغب بالثبات على التوبة بصدق أن يهجره كلّ الأسباب التي يمكن أن تُعيده لطريق الضياع ومعصية الله، كأصدقاء السُوء، وأماكن الفساد والفُجور، وأيُّ سببٍ قد يُزعزِعُ التوبة أو يُؤثر على التائب سلباً، فتُرديه في طريق الضلال، والهلاك.
- التيقّن بأنّ الله سبحانه وتعالى إن تاب التائب، وثَبَت على توبته، وحافظ عليها، واستمر عليها، وابتعد عن الكبائر فإنّ الله سيُبدل سيئاته السابقة للتوبة إلى حسنات، وهذا من رحمة الله، وفضله، وكرمه.
- استعانة التائبُ على كلّ ما سبق بالله سبحانه وتعالى، بأن يَمنَحه العَزم، والقُوّة للثباتِ على التوبة.
كيفية التوبة وشروطها
للتَّوبةِ أحكامٌ وشروط تستَلزمُ من المُسلم تحقيقها وبذل السِّعة في إنفاذها؛ مصداقاً لنيَّته، وتفسيراً لعودته، وصفاءً لسريرتهِ، والمُسلِمُ إذا قَصَدَ الله بتوبَتِهِ فتح الله له من الخير والتَّوفيقِ أبواباً شتَّى؛ حتى إنَّه يفرحُ بتوبتهِ ويُعينه عليها ويَجزيهِ بها، وفي الحديث الشّريف قال رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام: (للهُ أشدُّ فرحاً بتوبةِ عبدِه حين يتوبُ إليه من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضِ فلاةٍ فانفلتت منه وعليها طعامُه وشرابُه فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها، قد أيس من راحلتِه، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخطامِها ثم قال من شدةِ الفرحِ: اللهمّ أنت عبدي وأنا ربُّك؛ أخطأ من شدّةِ الفرحِ).[٧]
إقرأ أيضا:كيف أبتعد عن المعاصيجعَلَ الله أمر التَّوبةِ هيِّناً للمُسلِم، فعَلّمه من أمورِ التَّوبةِ ما يَجُبُّ الذُّنوبَ ويمحقها ويُبدِلها خيراً وإحساناً، واشترط في التَّوبةِ مسالِكَ تأديبيَّةٍ تَقتَضي التَّحقيق والاتِّباع[٥]، منها:
- الاعتراف بالذّنب، والإقراربه، والشُّعور بِعِظَمه، وإظهار الحسِّ بالخجل منه، دون تبريرٍ أو إنكارٍ، ومراتبُ الاعتذار ثلاثةٌ: الإنكارُ، والتَّبريرُ، والاعترافُ مع التماسِ الصَّفحِ، فأمَّا الإنكارُ فإنَّه يهدم التَّوبة ويُناقضُها ويخرقُ شُروطها فلا تصحُّ معه، قال تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)،[٨]
- في تفسير الآية يُوضّح الإمامُ الطَبريّ بأنَّ الخطيئة والإثم مُختلفانِ؛ فأمَّا الخطيئة فهي الذَّنبُ المُرتَكبُ على وجهِ التعمُّدِ أو الإصابةِ بغير قصدٍ، وأمَّا الإثمُ فهو ما لا يَحلُّ من المَعصِيةِ، والمعصيةُ لا تكونُ إلاَّ بوجهٍ واحدٍ مَقصودٍ، فإذا أنكرَ المُقترِفُ أحدَهما أو كلاهما ممّا أتى على وجهِ التعمُّدِ والقصدِ وادَّعى البراءة منها فإنَّه كَذَبَ على نفسِه وعلى ربِّهِ، وتجرَّأَ عليهِ بالكَذب والافتِراء، فيكون أصابَ من الإثمِ أعظَمه.[٩]
- استشعار النَّدمِ على ارتكابِ الذّنبِ، وإظهار الحَسرَةِ على ما تقدَّمَ من خطايا، والعزيمة على تركها جميعاً، وعدم العودة إليها.[١٠]
- مُحاسَبَةُ النَّفسِ وتَهذيبها ومُناصحتها بالخيرِ والإقبالِ على الطَّاعاتِ، ومراجعتها وتحريضها ضدَّ الذّنوبِ والمُنكرات.[١١]
- إبراءُ الذِمَّةِ إلى الله بالاعترافِ لأصحابِ الحقوقِ والمَظالمِ، والاستِعدادِ للمُحاسَبةِ الدُّنيويَةِ، وإبراء الذمّة ما أمكن، والسَّعيُ لردُّ الحُقوقِ واجتذاب المُسامَحة.[١٢]
- أن تكونَ التَّوبةُ خالصةً لوجهِ الله تعالى لا رياءَ فيها ولا مصلحةً ولا تفريطَ ولا خِداع، واستحضار النيَّةِ وسلامتها، وأن لا يُراد بالتَّوبةِ أمرٌ غير الله، والسَّلامةُ من عقابه والطَّمع في إحسانه.[١٠]
- مُجاهدة النّفس ومُصارعتها لترك المعصية، والإقلاع عنها والابتعاد عن بيئاتها، ومُهيِّئاتها، ومُسبّباتها، ودوافعها، ومن يُعينُ عليها.[١٠]
- طلبُ العونِ من الله على التَّوبةِ تسخيراً وقبولاً واستغفاراً ودعاءً.[١٠]
- إدراك الوقتِ المَخصوص لقبولِ التَّوبة قبل بُلوغِ الغَرغَرَةِ مِن الموتِ أو قِيامِ السَّاعةِ؛ لخصوصيَّة هذهِ المراحل الزَمنيَّة المُتَّصفةِ بالعَجزِ والضَّعفِ وتيقُّنِ الهلاكِ، قال الله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآْنَ).[١٣]
رُوي عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (مَن تاب إلى اللهِ قبل أن يموتَ بيومٍ قَبِل اللهُ منه قال: فحدَّثتُ بذلك رجلًا آخرَ مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: أنتَ سمِعتَ ذلك ؟ قلتُ: نعَم قال: أشهدُ لَسمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: مَن تاب إلى اللهِ قبل أن يموتَ بنصفِ يومٍ قبِل اللهُ منه قال: فحدَّثتُ بذلك رجلًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أنتَ سمِعتَه ؟ قال: قلتُ: نعَم فقال: أشهدُ لَسمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن تاب إلى اللهِ قبل أن يموتَ بضحوةٍ قبِل اللهُ منه قال: فحدَّثتُ بذلك رجلًا آخرَ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أنتَ سمِعتَ ذلك ؟ قلتُ: نعَم قال: فأشهَدُ لَسمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: مَن تاب إلى اللهِ قبلَ أن يُغَرغِرَ قبِل اللهُ منه)[١٤
إقرأ أيضا:من هم قوم يأجوج ومأجوج