لما فقد النصارى كثيراً من آثار الوحي والنبوة التي جاءتهم، ولم يعد عندهم أصل صحيح يرجعون إليه. اختلفوا وتفرقوا شيعاً وأحزاباً متباغضة متعادية. وفي هذا يقول الله عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14].
ومن الجدير بالذكر أن دعوة التوحيد التي نادى بها المسيح عليه السلام استمرت في تلاميذه وحوارييه قوية فاعلة إلى تدمير بيت المقدس سنة (70) م، ثم استمرت على نحو أضعف إلى التدمير الثاني سنة (135) م، حيث قُضِي عليها وتشرَّد أتباعها، فانفسح المجال واسعاً أمام المذاهب المنحرفة التي ظهرت في النصارى في وقت مبكر بدخول بولس ( شاؤول اليهودي ) في النصرانية، بعد رفع المسيح عليه السلام بسنوات قلائل، وبتأثير الديانات الوثنية والفلسفات الوثنية. فتوزع النصارى إلى فرق وأقوال عديدة متباينة تبايناً شديداً في أصول الديانة والعقيدة، إلا أن دعوة التوحيد كانت تظهر بين الحين والحين مع شوائب عديدة، ولم يبدأ الانقراض التدريجي لها إلا بعد مجمع نيقية سنة (325)هـ, الذي انعقد أصلاً للنظر في قول فرقتين من أكبر فرق النصارى في ذلك الوقت، وهو قول الفرقة الأريوسية الموحدة بأن المسيح بشرٌ مخلوق، وقول الفرقة البولسية بأن المسيح ابن الله خالق، وليس مخلوقا، تعالى الله عن قولهم.
فانتصر في ذلك المجمع القائلون بألوهية المسيح، وهو مذهب بولس، واعتنقت الدولة الرومانية المسيطرة في ذلك الزمان ذلك المذهب، مما أتاح لهذه الفرقة الدعم القوي والبقاء والانتصار على جميع الطوائف الأخرى التي اندثرت بعد ذلك بسبب شدة الكنيسة البولسية على مخالفيها، وصار بعد ذلك جُلُّ النصارى يجمعون على القول بألوهية المسيح، وأنه نزل ليصلب تكفيراً لخطيئة آدم عليه السلام، واعتبار أن الأناجيل الأربعة متَّى- مرقص- لوقا – يوحنا وبقية العهد الجديد مع العهد القديم هي الكتب المقدسة، ويختلفون في أمورٍ أخرى متعلقة بتلك العقائد أو غيرها من التشريعات. وينقسمون إلى طوائف عدة:
أولاً: القائلون بالطبيعة الواحدة للمسيح.
هم من أخذ بقرار مجمع أفسس السابق، وهم الأقباط واليعاقبة، والأرمن والأحباش.
ثانياً: القائلون بأن المسيح له طبيعتان.
هم من أخذوا بقرار مجمع خلقيدونية، ويقال لهم: الملكانية. نسبة إلى الملك، وهو الإمبراطور الروماني البيزنطي، والملكانية انقسموا إلى ثلاث طوائف كبار، هي: الطائفة الأولى: الكاثوليك.
الطائفة الثانية: الأرثوذوكس.
الطائفة الثانية: البروتستانت، ويسمَّون: (الإنجيليين) .
دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 371