فتح مصر

مصر في ظل الفتح الإسلامي

ملخص المقال

    مصر في ظل الفتح الإسلامي مقال بقلم د. جمال عبد الهادي، يبين أثر الفتح الإسلامي على مصر وعلى نصارى مصر، فما آثار فتح مصر؟ وكيف عامل المسلمون الأقباط؟

“في ظل الحكم الإسلامي نشطت الصناعة، ونمت الزراعة والتجارة، وأصبحت الإسكندرية أكبرَ أسواق العالم، وأكثرَ الثغور ازدحامًا وحركةً، وكانت بها تجارة عظيمة في القمح، والكَتَّان، والورَق، والزجاج، والعاج من بلاد النوبة وإثيوبيا، وكانت فوق ذلك تَصُبُّ فيها سِلع وبضائع الهند والصين”.

“ولم يَبْقَ من الضرائب الكثيرة والمتعدِّدَة التي كان يَتَحَمَّلها الأقباط طِيلَةَ عهد الاحتلال الرومانيّ (600 سنة) إلاَّ ضريبة الخراج، وهي ضريبة تؤخذ على أنواع المال: الزراعيّ، والصناعيّ، والتجاريّ.

والجزية (ديناران)، وهي تؤخذ من الشباب القادر على الكسب نظيرَ الدفاع عنه، وهي بمنزلة تأمين للمعاش بعد أن يكون عاجزًا عنِ الكسب، ولا تؤخذ من الشيخ الفاني، والصغيرِ الذي لم يَبلغ الحُلم، ولا النساء”.

“لقد أدرك المسلمون، أهميَّة دَور مصر في حركة التجارة العالمية، وأدركوا كذلك أهميَّة الدَّور الكبير الذي تلعبه التجارة الداخلية في هذه الحركة العالمية، فاهتموا بها اهتمامًا عظيمًا، وأتاحوا للتُّجَّار الأقباط أن يأخذوا مكانتهم في تجارة مصر، وهيَّئوا لهم حرية التجارة في المَيْدان التجاريّ، لم يكن لهم أن يتمتَّعوا بها من قَبْلُ في ظل الاحتلال الرومانيّ”.

إقرأ أيضا:فتح حصن بابليون

“كما أن المسلمين أبقوا على مختلف النظم التي عرفتها مصر منذ أقدم العصور، وأطلقوا لأهلها حريَّة العقيدة، وأمَّنوهم على أنفسهم وأموالهم، وتركوا لهم سائر الوظائف، والصناعة، والزراعة، والأعمال، واكتفى المسلمون بالإشراف على شئون الدولة، والقضاء، والشرطة، وقيادة الجيوش، والحكم، كلُّ ذلك كان باعثًا قويًّا لكثير من المصريين على الدخول في الإسلام، وصار لزامًا عليهم أن يتعلَّموا اللغة العربية؛ حتى يستطيعوا قراءة القرآن، وفَهْم أحكام الدين الإسلامي، والانخراط في سلك الدواوين، التي بدأت حركةُ تَعْريبها على عهد عمر بن الخطاب t“.

“وما إنِ انسلخ القرن الثالث الهجريُّ (التاسعُ الميلادي) حتى دانت الغالبيةُ العظمى من أهل مصر بالإسلام، وبقيتْ أقليةٌ نصرانيةٌ، وأضحت اللغة العربية لغةَ كلِّ المصريين: في الدواوين، والتَّخاطُب، والعبادة، والثقافة، والفِكر، والعلم، يتكلم العربيةَ ويتعامل بها كلُّ المصريين، سواء كانوا مسلمين أو نصارى أو يهود”.

وهكذا وجد الأقباطُ في المسلمين غيرَ ما كانوا يجدونه من البِيزَنْطِيِّينَ الرُّومانِ؛ فأقبلوا في حماس دافق يتعاوَنُون مع المسلمين في إدارة شئون مصر، يُحَفِّزهم أنَّهم كانوا يومئذٍ أكثريَّةً بين العاملين في شتَّى الوظائف بأنحاء البلاد، كانوا يملكون الأرض، ويَزرعونها دون تدخُّل من السلطة الإسلامية الحاكمة، وكانوا يُديرون اقتصاد البلاد؛ بل كانوا رؤساء المالية طَوال العصر الأُمَوِيِّ، وكانتْ سائر الوظائف المَدَنِيَّة بأيديهم؛ ولهذا كان تقدير النصارى للمسلمين عظيمًا، وقابلوا الفضل بالعرفان والتقدير، وإخلاصهم في العمل الذي وَلاّهم إياه المسلمون، ونعمتْ مصرُ بالاستقرار، واستمتع أهلها بهدوء الحياة التي لا يَشوبها كَدَرُ الخلافاتِ الدينيةِ، ولا يَشوب بهجَتَها مشكلاتٌ سياسيةٌ أو اقتصاديةٌ”.

إقرأ أيضا:علاقة مصر بالدولة الإسلامية

“وقد هيَّأ الفتح الإسلامي لمصر أن تقوم بدَورها التاريخيِّ المنتظَر منها في إعداد وتجهيز الجيوش البريَّة والأساطيل البحرية، وبَعْثها إلى إفريقيَّةَ والمغرب ثم الأندلس؛ ليتحقَّق للمسلمين السيادةُ على مياه البحر الأبيض المتوسط، وتحقيق الأمن والأمان لكل إنسان، وصدق الله العظيم القائل: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

لماذا انتصر المسلمون وفتحت لهم الأمصار ؟

“سأل هِرَقْلُ أحد جُنْدِهِ الذي كان أسيرًا لدى المسلمين، ثم مَنُّوا عليه بإطلاقه: أَخْبِرْنِي عن هؤلاءِ القوم؟ فقال: أُحَدِّثُكَ كأنك تَنظر إليهم، فُرسان بالنهار رُهبان بالليل، ما يأكلون في ذِمَّتِهِم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على مَنْ حارَبَهم حتى يأتُوا عليه. فقال هِرَقْلُ: لئن كُنْتَ صدقْتَنِي ليرثُنَّ ما تحت قدميَّ هاتَيْنِ”[1].

وقد ذكر الكاتب نقلاً عن “الدعوة إلى الإسلام” ص128 عن الأقباط في مصر: “ملئوا مناصب الوزراء والكُتَّاب في دواوين الحكومة، وحدَّدُوا قيمةَ الضرائب التي تُجبى على الأرض التي تعطى على سبيل الالتزام، وجمعوا ثروة ضخمة في بعض الحالات، ولقد أَمَدَّنا تاريخُ كنيسهم بكثير من الأمثلة عن رجال الكنيسة، الذين تمتَّعوا بعَطْفِ الأمراء الذين حكموا بلادهم، ونَعِمَ القِبْطُ في عهدهم بأقصى درجات الطمأنينة”.

شهادة (أرمانوسة القبطية) بنت المقوقس وهي محصورة في بلبيس:

“حينما حاصر المسلمون الجنودَ الرّومانَ في منطقة بِلْبِيسَ، خَشِيَ النساء على أنفسهِنَّ من المسلمين، وتصورْنَ أن المسلمين مثل المجرمين الرومان، الذين يغتصبون النساء وينتهكون الأعراض، ولكن أرمانوسة بنت المقوقس طمأنتِ النِّسوة، وقالت لإحدى وصيفاتها:

إقرأ أيضا:من الفرما.. إلى حصن بابليون

“أنتِ واهمة يا مارية (وصيفتها)، أنت واهمة يا مريم! أنسيتِ أن أبي قد أهدى إلى نَبِيِّهِم بنت أنصنا -مارية القبطية (عليها السلام)- فكانت عنده في مملكة، بعضها السماء، وبعضها القلب، لقد أخبرني أبي أنَّه بعث بها؛ لتكشف له عن حقيقة هذا الدين، وحقيقة هذا النبيّ، وأنَّها أنفذتْ إليه دَسِيسًا يعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نَبِيَّهَمُ أَطْهَرُ منَ السحابة في سمائها، وأنهم جميعًا يَنبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتهم، وإذا سَلُّوا السيف سَلُّوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون”.

وقالت عنِ النساء: “لأنْ تخاف المرأة على عِفَّتِها من أبيها أقربُ من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبيِّ؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلاميّ في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحًا يضرب صاحبه إذا هم بمخالفته”.

وقالت لها أرمانوسة أيضًا: “لقد أخبرني أبي أن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العُصارَةِ الحَيَّة في الشجرة الخضراء، طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي وقت غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي ظلالها”[2].

وقد صدقت فِراسَةُ أرمانوسة؛ إذ إنَّ عمرو بن العاص أرسل أرمانوسة وجميعَ مالِها وخدمها معزَّزَةً مكرَّمة إلى أبيها المقوقس، في حراسة جند الإسلام، بقيادة قَيْسِ بن أبي العاص السَّهْمِيّ.

المصدر: موقع الألوكة، نقلاً عن كتاب “فتح مصر” د. جمال عبد الهادي.


[1] تاريخ الطبري 3/602.
[2] د. عبد الحليم عويس: “الفتح الإسلامي لمصر”، المنار الجديد، عدد يناير سنة 1998م، ص63 وما بعدها، وهو يعتمد على مصطفى صادق الرافعي، “من وحي القلم” ص36، وقصة “اليمامتان”، نشر مهرجان القراءة عام 1995م، مصر. وبسام العسلي: عمرو بن العاص ص52، 53.

السابق
فتح النوبة ومعاهدة البقط
التالي
الفتح الإسلامي لمصر كان تحريرا لها