إنها السيدة مريم الصديقة القانتة التي يرتبط اسمها ارتباطا وثيقا في أذهان المسلمين باسم السيد المسيح عيسى بن مريم، الذي جُعل آية للناس حيث خلق من أنثى بلا ذكر شأنه في عجب الخلق شأن آدم الذي لم يخلق من ذكر ولا أنثى وكذلك حواء التي خلقت من ذكر بلا أنثى.
وهي مريم العذراء عند المسيحيين الذين يختلفون في تحديد طبيعتها بين مؤمن بأنها أم الإله كما يؤمن الأرثوذكس بل وشريكة في الخلاص كأحد خصائص الرب يسوع عند الكاثوليك، وبين منكر لأمومتها للإله ومؤمن بأنها القديسة التي أنجبت الإله كما يؤمن البروتستانت.
وبغض النظر عن طبيعة السيدة مريم وعن اعتقاد المسلمين أو المسيحيين بطوائفهم المختلفة في طبيعتها، فإن فضل السيدة مريم العذراء وتسليط الضوء على بعض تفاصيل حياتها في الإسلام من الأمور التي تدهش العقول وتذهل الألباب. ففي الإسلام ومرجعياته المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، نجد الكثير من الآيات والأحاديث التي تتناول فضل السيدة مريم وبعض تفاصيل حياتها، وهو ما لا نجده مطلقا في المسيحية ولا في الكتاب المقدس.
ميلاد السيدة مريم
فعلى سبيل المثال، يتناول القرآن الكريم والسنة النبوية ميلاد السيدة مريم وفضلها حتى عند مولدها. فعن ميلاد السيدة مريم، نقرأ في القرآن الكريم:
إقرأ أيضا:النظافة الشخصية بين الإسلام والمسيحيةإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا… (آل عمران 33:3-37)
وعن ميلاد السيدة مريم عليها السلام، قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها” ثم يقول أبو هريرة وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (رواه البخاري)
أما المسيحية، فلا نجد في الكتاب المقدس أي ذكر لميلاد السيدة مريم.
نشأة السيدة مريم
يتناول القرآن الكريم جانبا من نشأة السيدة مريم عليها السلام، ويركز تحديدا على كفالتها والمعجزة التي أجراها الله على يديها. فعن نشأة السيدة مريم، نقرأ في القرآن الكريم:
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران 37:2)
إقرأ أيضا:إسهامات المسلمين في تصحيح عقائد الأمم السابقةكما نقرأ أيضا:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (آل عمران 42:3-44)
أما المسيحية، فلا نجد في الكتاب المقدس أي ذكر لنشأة السيدة مريم.
ولادة السيد المسيح
من المدهش أن رواية ميلاد المسيح في القرآن الكريم أكثر تفصيلا واتساقا ومنطقية وإقناعا وتشريفا للسيدة مريم منها في الكتاب المقدس. فرواية القرآن تبين أن الملائكة بشرت السيدة مريم بالسيد المسيح قبل مولده باعتباره كلمة من الله وآية للناس من عند الله. ففي القرآن الكريم نقرأ:
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران 45:3-47)
كما نقرأ:
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (مريم 21:19)
إقرأ أيضا:موقف القرآن من الإيمان بـ”الإنجيل”ويوضح القرآن الكريم أن الملك الذي ظهر للسيدة مريم طلب منها الصوم عن الكلام والتوكل على الله تعالى فيما جرت به المقادير. ولقد أجرى الله على لسان السيد المسيح وهو لايزال في المهد صبيا ما يثبت أنه عبد لله ونبي ورسول من عند الله وأن أمه السيدة مريم بريئة من الوقوع في الخطيئة بدليل وصاية الله له ببرها. ففي القرآن الكريم نقرأ:
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (مريم 30:19-32)
أما روايات ميلاد السيد المسيح في الكتاب المقدس، فهي غير كافية منطقيا لتبرئة السيدة مريم العذراء من الوقوع في الزنا. فأما إنجيل متى في إصحاحه الثاني، فيذكر أن مجوسا أتوا ليسجدوا للمولود ملك اليهود الذين رأوا نجمه. والسؤال الآن هو: هل من المنطقي أن يسجد المجوس لمولود من بني إسرائيل بزعم أنه ملك اليهود؟ فمنذ متى يسجد المجوس لملك اليهود في ظل سلطة الدولة الرومانية؟ ولماذا لم يتبع المجوس السيد المسيح فيما بعد؟ وكيف يحدث ذلك لمولود ولد لأب وأم مخطوبين قبل عقد نكاحهما؟ فليس في رواية إنجيل متى ما يبرئ السيدة مريم من تهمة الزنا.
وأما إنجيل لوقا، فلم يبين كيفية نجاة السيدة مريم من الاتهام بالزنا حيث أنها ولدت السيد المسيح قبل زواجها من يوسف النجار وحال كونها مخطوبة له فقط.
تبرئة السيدة مريم من الزنا
تعرضت السيدة مريم لاتهامات بالزنا سواء حال حياتها أو تاريخيا وبعد موتها. ومن الغريب أننا لا نجد الكتاب المقدس يدافع عن السيدة مريم أو يبرأها من مثل هذا الاتهام الخطير. أما القرآن الكريم، فقد أكد براءة السيدة مريم من تهمة الزنا في أكثر من موضع. فنحن نقرأ على سبيل المثال رمي اليهود بالكفر في معرض توبيخهم لاتهامهم السيدة مريم بالزنا:
…وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا.. (النساء 156:4)
ونقرأ:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (التحريم 12:66)
كما نقرأ أيضا:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء 91:21)
أما الكتاب المقدس، فلا نجده يهتم بتبرئة السيدة مريم من الزنا.
بر السيد المسيح بالسيدة مريم
يؤكد القرآن الكريم على بر السيد المسيح بأمه السيدة مريم عليها السلام. ففي القرآن الكريم نقرأ:
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (مريم 30:19-32)
أما الكتاب المقدس، فلا نجده يعكس أي بر من قبل السيد المسيح تجاه أمه السيدة مريم عليها السلام. فعلى سبيل المثال، نقرأ في الكتاب المقدس: فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ:«هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطْلُبُونَكَ». فَأَجَابَهُمْ قِائِلاً: «مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي». (مرقص 31:3-35)
كما نقرأ: وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». (يوحنا 3:2-4)
كما نقرأ أيضا: وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا، رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَتْ لَهُ:«طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا». أَمَّا هُوَ فَقَالَ:«بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ». (لوقا 27:11-28)
فضل السيدة مريم
إلى جانب إعاذتها من الشيطان الرجيم وحسن نشأتها ورزقها بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وجعلها وابنها آية للعالمين، يعدّد الإسلام فضائل السيدة مريم ومناقبها. ومن هذه المناقب تطهيرها واصطفائها على نساء العالمين. ففي القرآن الكريم نقرأ:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (آل عمران 42:3)
ويحكي لنا الكتاب المقدس هذا المعنى أيضا، ففيه نقرأ: فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». (لوقا 28:1)
إلا أننا نجد الإسلام أكثر إطنابا في فضل السيدة مريم عليها السلام. ولقد ورد في فضل السيدة مريم أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن أبي موسى رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :”كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا: آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ” (رواه البخاري ومسلم)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ” (رواه البخاري ومسلم)