ملخص المقال
- ابن الطفيل.. الطبيب الفيلسوف؛ مقال للدكتور راغب السرجاني يسرد فيه نبذة عن ابن الطفيل أحد علماء الطب والفلسفة في التاريخ الإسلامي
موسوعي آخر، يعرفه العالم على أنه فيلسوف عظيم، ولكن عمله كطبيب حاذق في بلاط أعظم خلفاء دولة الموحدين بالمغرب العربي ومؤلفاته الطبية بل والفلسفية تجعلنا نعرف أنه من كبار علماء الطب المسلمين.
إنه محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد ابن طفيل، يكني بأبي بكر وينتسب لقبيلة قيس العربية الكبرى ذائعة الصيت، حتى قسم العرب إلى قيسيين ويمنيين، وهو المعروف بابن الطفيل.
وُلِدَ في وادي آش، وهي مدينة في الشمال الشرقي من غرناطة، وتختلف الروايات حول تاريخ مولده، فالزركلي يثبت أنها (494هـ/1100م)، بينما قال عمر كحالة أنه وُلِدَ عام (506 هـ/ 1110م).
ولا تتوافر معلومات كثيرة عن فترة الطفولة والنشأة في حياة ابن الطفيل، ولكنه رحل إلى غرناطة مبكرًا، وهناك كان النبوغ والظهور، ففيها تعلَّم الطب وعمل بالكتابة، وكان يكتب لرؤساء غرناطة؛ فكان من خواص الريس أبي جعفر، وأبي الحسن بن ملحان، ومع نبوغه وسطوع نجمه عمل كاتبًا لوالي غرناطة، بل وتولَّى الحجابة (كبير الوزراء) في بلاط غرناطة.
إقرأ أيضا:ابن زهر – الطبيب الإكلينكي ورائد علم الأورامومع ازدياد صيت ابن الطفيل، استدعاه خليفة دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ليكون وزيره وطبيبه الخاص؛ إذ كان أبو يعقوب ممن شُغِفُوا بالعلم والفلسفة، وأمر بجمع كتب الفلسفة من أنحاء الأرض فجُمعت له حتى ساوت المكتبة الأموية في عهد الخليفة الأموي الحكم المستنصر بالله بالأندلس قبل هذا العهد بحوالي مائتي سنة.
وفي المغرب بلغ ابن الطفيل المكانة العظمى عند الخليفة حتى قال المراكشي: “وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له، بلغني أنه كان يقيم في القصر عنده أيامًا ليلاً ونهارًا”.
ولابن الطفيل يعود الفضل في الشهرة الواسعة للفيلسوف ابن رشد، فهو الذي استقدمه إلى المغرب وقَدَّمَه إلى الخليفة أبي يوسف الموحدي، فحظي عنده، وبذا صار واحدًا من أعلام التاريخ الإنساني كله.
تميَّز ابن الطفيل بالموسوعية التي شملت كثيرًا من أوجه العلم، فقد “كان عالمًا، صدرًا، حكيمًا، فيلسوفًا، عارفًا بالمقالات والآراء، كلفًا بالحكمة المشرقية، محققًا، متصوِّفًا، طبيبًا ماهرًا، فقيهًا بارع الأدب، ناظمًا، ناثرًا، مشاركًا في جملة من الفنون”.
مؤلفات ابن الطفيل:
كان لموسوعية ابن الطفيل بصمة خاصة على مؤلفاته، فاستطاع بموهبته في الشعر أن يصوغ خبرته الطبية في قصيدة بلغت أكثر من (سبعة آلاف وسبعمائة) بيت، وهي ما زالت مخطوطة وموجودة في مكتبة القرويين بفاس برقم (3158).
إقرأ أيضا:محمد بن أسلم الغافقي وكتابه المرشدوإذا كان قد جمع الطب بالشعر في قصيدة، فسنراه كذلك يصوغ الطب وتتبدَّى خبرته في جانب التشريح عبر مؤلفه الأشهر في الفلسفة (رسالة حي بن يقظان)، فإنه شرح “على لسان بطل قصته الشهيرة حي بن يقظان تشريح الغزالة، وبَيَّنَ وصف الأعضاء التي شاهدها من الجلد حتى القلب”.
وغير هذا له رسالتان في الطب، كما له مع ابن رشد -الفيلسوف والطبيب المشهور- مباحثات في رسم الدواء جمعها ابن رشد في كتاب.
ويُثبت له المترجمون تآليف متنوعة في الطبيعيات والإلهيات والفلسفة والطب والفلك، حتى إن له نظرية في الفلك خالف فيها بطليموس، قال بشأنها تلميذه أبو إسحاق البتروجي وهو الفلكي الشهير: “ولا عجب فإن علمه غني عن الإطناب”. ومن مؤلفاته (أسرار الحكمة المشرقية)، و(النفس).
ومن المؤسف أنه لم يصل إلينا شيء من ثروته العلمية هذه إلاَّ رسالته (حي بن يقظان)، والمخطوطة التي تحتوي القصيدة الطبية الموجودة بمكتبة القرويين.
وممَّا يلفت النظر ويثبت رسوخ قدم ابن الطفيل في علم الطب أن مؤرخ الأندلس المقري صاحب (نفح الطيب) حين أثبت فخر الأندلس بمن فيها من العلماء ذكر ابن الطفيل في مجال الطب، وإن أشار إلى علوِّه في الفلسفة فقال: “وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان المقدم في علم الفلسفة؟”.
إقرأ أيضا:النجيب السمرقندي – الطبيب الحكيمومن غير العجيب أن يُعَبِّر ابن الطفيل عن الصفة المميزة التي طَبَعَتْ بها الحضارةُ الإسلامية نفوس أبنائها، حيث لا تضادَّ بين العلم والدين، بل العلم نفسه نعمة من الله، وطلبه واجب على العبد، وبذله عبادة وقربة، وحيث الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها.
يذكر المراكشي عنه أنه “صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي، ونبذ ما سواه، وكان حريصًا على الجمع بين الحكمة والشريعة؛ مُعَظِّمًا لأمر النبوات ظاهرًا وباطنًا، هذا مع اتساع في العلوم الإسلامية، وبلغني أنه كان يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخَدمة؛ من الأطباء، والمهندسين، والكتاب، والشعراء، والرماة، والأجناد، إلى غير هؤلاء من الطوائف، وكان يقول: لو نَفَق عليهم علمُ الموسيقى لأنفقتُه عندهم”.
فرحم الله ابن الطفيل وهيأ مَن يُخْرِج لنا كنوزه من بين المخطوطات الكثيرة التي ما زالت مجهولة ومدفونة في أنحاء الأرض الإسلامية الواسعة التي حكمها الإسلام يومًا.
المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.