د/ مصطفى محمود
حدثني صاحبي -وهو يبتسم ابتسامة خبيثة تبدي نواجذه، وقد لمعت عيناه بذلك البريق الذي يبدو في وجه الملاكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية- حدثني قائلا: ألا تلاحظ معي أن مناسك الحج في الإسلام وثنية صريحة؛ ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله، ورجم الشيطان، والهرولة بين الصفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود، وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات. أليست من بقايا خرافة الأرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة، وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم!!!، ثم تابع: لا تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء في العلم.
وراح يراقبني ببطء من وراء نظارته.
الطواف وقوانين المادة
قلت في هدوء:
* ألا تلاحظ معي أنت أيضا أن في قوانين المادة التي درستها يطوف الأصغر حول الأكبر؛ الإلكترون في الذرة يدور حول النواة، والقمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، والشمس حول المجرة، والمجرة حول مجرة أكبر، إلى أن نصل إلى “الأكبر مطلقا” وهو الله. ألا نقول “الله أكبر”؛ أي أكبر من كل شيء.
وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ولا تملك إلا أن تطوف، فلا شيء ثابت في الكون إلا الله. هو الصمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله.
إقرأ أيضا:اللادينية.. أليس من المحتمل وجود آلهة أخرى في الكون؟وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذي تعلمته في الفيزياء. أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله؛ وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله، فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا لله.
ألا تطوفون أنتم حول رجل محنط في الكرملين تعظمونه وتقولون أنه أفاد البشرية، ولو عرفتم لشكسبير قبرا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصلاة والسلام؟!
ألا تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون أنه يرمز للجندي المجهول. فلماذا تلوموننا لأننا نلقي حجرا على نصب رمزي نقول أنه يرمز إلى الشيطان؟!!
* ثانيا: ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى موتك، ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا “الصفاء أو الخواء أو الفراغ.رموز العدم، إلى المروة وهي النبع الذي يرمز إلى الحياة والوجود.
من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم. أليست هذه هي الحركة البندولية لكل المخلوقات؟ ألا ترى في مناسك الحج تلخيصا رمزيا عميقا لكل هذه الأسرار؟.
سر الرقم سبعة!
* نأتي إلى الرقم 7 الذي تسخر منه. دعني أسألك: ما السر في أن درجات السلم الموسيقي 7؟ ثم بعد المقام السابع نعاود الكرة من جديد، وكذلك درجات الطيف الضوئي7، والإلكترونات تدور حول نواة الذرة في نطاقات 7، والجنين لا يكتمل إلا في الشهر السابع وإذا ولد قبل ذلك يموت، وأيام الأسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري 7 وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتفقوا.
ألا يدل ذلك على شيء. أم أن كل هذه العلوم هي الأخرى شعوذات طلسمية؟؟!!.
* أخيرا أيها المشاغب: ألا تقبل خطابا من أمك أو أبيك. هل أنت وثني؟ فلماذا تلومنا إذا قبلنا ذلك الحجر الأسود الذي حمله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ثوبه وقبله.
لا وثنية في ذلك بالمرة. لأننا لا نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها، وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات.
تحريك الفكر وبعث المشاعر
إن مناسك الحج هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلب. أما ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط ألا يكون مخيطا فهو رمز للخروج من زينة الدنيا وللتجرد التام أمام حضرة الخالق. تماما كما نأتي إلى الدنيا عرايا إلا من قطعة قماش نُلف فيها ثم نخرج من الدنيا لقبورنا على نفس تلك الحال. ألا تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية لمقابلة الملوك ونحن نقول: إنه لا شيء يليق بجلالة الله إلا التجرد وخلع جميع الزينة لأنه أعظم من جميع الملوك، ولأنه لا يصلح في الوقفة أمامه إلا التواضع التام والتجرد. ولأن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير سواء أمام الله فيه معنى آخر للأخوة رغم تفاوت المراتب والثروات.
إقرأ أيضا:العسلوالحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي. ومثله صلاة الجمعة وهي المؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع.
هي كلها معان جميلة لمن يفكر ويتأمل. وهي أبعد ما تكون عن الوثنية.
ولو وقفت معي في عرفة بين عدة ملايين يقولون الله أكبر ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون: لبيك اللهم لبيك، ويبكون ويذوبون شوقا وحبا – لبكيت أنت أيضا دون أن تدري ولذُبت بين تلك الجموع الغفيرة من الخلق، ولأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم مالك الملك الذي بيده مقاليد كل شيء.