آيات وجود الله

هل العلم و الإلحاد وجهان لنفس العملة؟

أ.د/عمرو شريف

إن وجود مجموعة قليلة من البشر تنطلق في إيمانها من العلم والمنطق يقوض ما يدعيه الملاحدة الجُدد عن التعارض بين العلم والدين

     هل العلم و الإلحاد وجهان لعملة واحدة؟..يقول جون هوت[1] “إن وجود غراب أبيض واحد يقضي على ادعاء أن كل الغربان سود” وبالمثل فإن وجود مجموعة قليلة من البشر تنطلق في إيمانها من العلم والمنطق يقوض ما يدعيه الملاحدة الجُدد عن التعارض بين العلم والدين. ونُصَعِّد قوة الاستشهاد ونتساءل: هل قولنا أن بعض الأدباء ملاحدة يعني أن الأدب ملحد؟

     لا شك أن الموقف في الشرق وفي العالم الإسلامي يختلف كثيراً عن الغرب المسيحي، ففي الحالة الأولى يمثل الملاحدة الغربان البيض، أما في الغرب فيحتاج الأمر إلى نظرة أكثر تفصيلاً.. فإذا نظرنا إلى شريحة العلماء، وجدنا أن 90% من مؤسسي الجمعية الملكية[2] في إنجلترا مؤمنون.

أما في الولايات المتحدة، فقد أظهرت دراسة أجريت على 1000عالم ونُشرت في مجلة Nature (أبريل 1997) تساوي عدد العلماء المتدينين والملاحدة عام 1916، ثم زيادة الملاحدة على المتدينين بنسبة 6% عام 1996م أي بعد ثمانين عاماً من التقدم وما صاحبه من دعوة إلحادية شرسة لم تزدد نسبة الملاحدة إلا بقدر ضئيل.

إقرأ أيضا:ذو الجمال والجلال.. من تكامل المتناقضات في كتاب الله! ج 2

     وفي مقابل موقف الملاحدة أمثال دوكنز وأتكنز، نجد أن معظم كبار العلماء من مؤسسي فيزياء الكم والحاصلين جميعاً على جوائز نوبل كانوا من المؤلهة، وعلى رأسهم أينشتين، وماكس بلانك، وهيزنبرج، وشرودنجر، وبول ديراك. وكذلك أشهر الرواد من علماء المخ والأعصاب كانوا من المؤمنين، ومنهم روجر سبيري، وويلدر بنفيلد، وتشارلس شرنجتون، وجون إكلز، وقد حصل الأربعة على جوائز نوبل أيضاً. ولا شك أن هذين المَثَلَين يقضيان على الهراء الذي يملأ به الملاحدة الساحة مرددين أن معظم العلماء من الملاحدة، ويزوِّرون الإحصائيات من أجل إثبات ذلك.

     انظر أيضاً إلى الرواد الفطاحل من العلماء المتدينين.. هذا “جاليليو” يعلن أن وراء عقله المتسائل الباحث عن الحقيقة قناعته الداخلية بأن الخالق الذي أمدنا بالحواس والعقل والذكاء يريد منا أن نستخدمها لنتوصل إلى المعرفة. وهذا “كبلر” يعلن أن الهدف الرئيسي للبحث في العالم الخارجي هو اكتشاف النظام المنطقي الذي وضعه الإله، والذي كشفه لنا في لغة الرياضيات.

ويؤكد ” أينشتين” أن هدفه الرئيسي أن يعرف كيف يفكر الإله، والباقي تفاصيل. ويقول سير جون هوفتن[3] عالم المناخ الكبير: “إن علمنا يؤمن بالإله، إن الإله يقف وراء قصة العلم كلها، النظام المدهش، الانضباط، المصداقية، التعقيد المذهل، إن ذلك كله ليس إلا ممارسات الإله”.

واستمع أيضاً لقول سير جيليان برانس[4]: “لسنوات عديدة وأنا أعتقد أن الإله هو مصمم الوجود، إن كل دراساتي العلمية تثبت هذا الإيمان”. وغير هؤلاء من الأسماء الكبيرة باسكال وبويل ونيوتن وفاراداي ومندل وباستير وماكسويل.

إقرأ أيضا:ظاهرة الحياة

المحصلة أن لدينا علماء كبار يثبتون وجود الإله وقيوميته على الوجود، وآخرين يتنكرون له، إن ذلك يعني أن العلاقة بين الإله والعلم ليست بسيطة، بل تحتاج لتأمل عميق.

فهم قاصر للعلم يعادي الدين

     لاشك أن ملامح المنهج العلمي قد تحددت في ظروف الصراع بين رجال العلم المنطلق من القمم وبين رجال الكنيسة المستميتين في الدفاع عن أفكارهم الدوجماتيكية[5] وسلطانهم. ورأينا أن هذا الصراع أدى إلى تركيز العلماء على “التفسيرات الآلية” واعتبرها الماديون منهم كل الحقيقة، كما اعتبروا أن الآلية تغني عن البحث في الغائية والسبب الأول، وقد أدى هذا الفهم القاصر للعلم على أن تَنَكر هؤلاء تماماً للدين وللإله.

وفهم قاصر للدين يعادي العلم

ما تحمله الدين نتيجة لفهم قاصر من رجال مخلصين أكثر مما تحمله من أفراد سيئي النية يقصدون الانتقاص منه!

     ما أكثر ما تحمَّل الدين من أوزار لا دخل له فيها، وما تحمله الدين نتيجة لفهم قاصر من رجال مخلصين أكثر مما تحمله من أفراد سيئي النية يقصدون الانتقاص منه. فكم خرج مخلصون عن الاعتدال والوسطية في محاولاتهم لتنزيه الإله أو للرفع من شأن دينهم، فكانت النتيجة عكس ما يصبون إليه، وإليك ثلاثة أمثلة:

إقرأ أيضا:للكون إله.. العقيدة في مواجهة الشكوك (ج3)
  • لاهوت أغسطين أَخَّرَ العلم ألف عام

     لا شك أن لاهوت أغسطين[6] الذي ساد أوروبا لأكثر من ألف عام، وما طرحه عن فكرة فداء المسيح للبشرية، قد حوَّل الأنظار عن الاهتمام بالدنيا إلى الاهتمام بالغيب، وشارك في ذلك نظر أغسطين إلى الطبيعة نظرة مجازية تعتبر أن أحداثها تشير إلى مفاهيم دينية غيبية، فكانت المحصلة أن قل اهتمام الناس بالطبيعة وببناء الحضارة.

     ويبين بيتر هاريسون[7] أستاذ تاريخ العلم والديانات بأكسفورد أن ظهور الاتجاه البروتوستانتي[8] في المسيحية في القرن السادس عشر قد قضى على فكرتي فداء المسيح ورمزية الطبيعة كما فهمها أُغسطين من التوراة، فكان ذلك وراء انطلاق العلم من قيوده.

  • صراع الكنيسة مع جاليليو

لقد كان جاليليو على إيمان عميق بالله، وكان يعتقد أن الله قد كتب بيده قوانين الطبيعة بلغة الرياضيات، وأن العقل الإنساني هو أعظم أعمال الإله. لذلك تلقَّى في البداية دعماً كبيراً من العلماء والفلكيين المتدينين، بينما هوجم بشدة من قِبَلِ الفلاسفة العلمانيين في الأكاديمية العلمية لمخالفته أرسطو والأرسطيين فأثاروا ضده رؤساء الكنيسة. وساعد على ذلك أن عصر جاليليو كان فترة شديدة الحرج للكنيسة الرومانية بعد أن ظهرت الدعوة البروتستانتية للإصلاح، فكانت النتيجة أن مُنِعَ تداول فكر جاليليو كما حُددت إقامته.

     ولقد كان اختلاف جاليليو مع أرسطو منهجياً كما كان تفصيلياً. فمن ناحية المنهج، بدلاً من أن يبني جاليليو تصوره عن السماوات على الفكر الفلسفي فقد وجه تليسكوبه عن مركزية الشمس بدلاً من القول بمركزية الأرض. كذلك وصف جاليليو ما طرحه كوبرنيكوس عن مركزية الشمس بدلاً من القول بمركزية الأرض. كذلك وصف جاليليو البقع الشمسية التي تتعارض مع مفهوم الشمس كنجم مثالي، كما وصف نجوم السوبر نوفا (المتفجرة) التي يتعارض وجودها مع السماوات المستقرة، وكلاهما مفهومين يتعصب لهما الفلاسفة الأرسطيين الذين يرون نقصاً في الكمال الواجب في الخلق الإلهي.

إذن كان الصراع في قضية جاليليو صراعاً أداره رجال الكنيسة باسم الدين، بين بعض مفاهيمهم الفلسفية وبين العلم.

     يوضح ما سبق أن الصراع الحقيقي لم يكن بين العلم والدين، ولكن كان “بين بعض رجال العلم وبين الدين” و “بين بعض رجال الدين وبين العلم” إذ أن آراء بعض العلماء ليست بالضرورة آراء العلم، كما آراء بعض رجال الدين ليست بالضرورة آراء الدين.

السابق
جامع و فالق الحب والنوى.. من تكامل المتناقضات في كتاب الله تعالى ج4
التالي
الطبيعة الأم.. قوة التدمير التي لا ترحم!!