في شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد، وفيها خرجت قريش في نحو ثلاثة آلاف مقاتل، لقتال المسلمين والثأر منهم لما لَحِق بهم من هزيمة شديدة في بدر، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أعلن الجهاد، ووعد المؤمنين بنصر الله وثوابه، وما أعده الله للشهداء، واستشار أصحابه في الخروج للقتال خارج المدينة أو البقاء فيها، فأشار كثير منهم بالخروج للقتال، فوافقهم صلى الله عليه وسلم، مع أن رأيه كان خلاف ذلك.
وغزوة أحد معركة اجتمع فيها النصر والهزيمة، ومع ما فيها مِن جراح وآلام، وشهداء بلغوا سبعين شهيداً، إلا أن فيها من المواقف والفوائد والحِكم الكثير، قال ابن حجر: “قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة”.
وفي هذه الغزوة والمعركة ظهرت مواقف وصور كثيرة من حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة عملية، ومن ذلك:
أنس بن النضر وصدقه:
روي البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (غاب عِمِّي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غِبْتُ عن أولِ قتالٍ قاتلتَ المشركينَ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يوم أُحُد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ، وأبرأ مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة وربِّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِلَ وقد مَثَّلَ به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه (أصبعه)، وقال: كنا نرى ـ أو نظن ـ أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب : 23)).
وفي السيرة النبوية لابن هشام، ودلائل النبوة للبيهقي : “انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتِل”.
سعد بن الربيع ووصيته:
ذكر ابن القيم في كتابه زاد المعاد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته، وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته”.
وهذا نصح من سعد بن الربيع رضي الله عنه لله ورسوله، وفيه دلالة على قوة إيمانه، ومدى حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصه على حمايته وسلامته رغم أنه في سكرات الموت، ولذلك قال: “لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف”.
طلحة بن عبيد الله وأبو طلحة الأنصاري ودفاعهما عن رسول الله:
في أثناء القتال عرضت للنبي صلى الله عليه وسلم صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فصعد عليه، قال الزبير رضي الله عنه: “وأبلى طلحة بلاء حسنا يوم أحد، ووقى (حَمَى) رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، واتقى عنه النبل بيده، حتى شلت أصبعه وضرب الضربة في رأسه، وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره، حتى استقل على الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوجب طلحة) أي الجنة.
وقد أخرج البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب طلحة، قال قيس: (رأيت يد طلحة التي وقى (حَمَى) بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد شلاء (أصابها الشلل)).
أما دفاع أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أنس رضي الله عنه: “لما كان يوم أحد انهزم ناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوباً عليه بحجفة (مُحِيطٌ بِهِ بِتُرسٍ لِيَحمِيَه)، وكان رامياً شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: انثرها لأبي طلحة، ثم يشرف (يتطلع وينظر) إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت، لا تشرف ألا يصيبك سهم، نحري دون نحرك) رواه البخاري. أي: جعل الله نحري أقرب إلى السهام من نحرك لأُصَاب بها دونك، وحاصله: أفديك بنفسي يا رسول الله.
إقرأ أيضا:خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّمالك بن سنان:
امتص مالك بن سنان رضي الله عنه الدم من جُرْحٍ في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقد أخرج البيهقي عن عمرو بن السائب أنه: “بلغه أن مالكاً والد أبى سعيد الخدرى لما جُرِحَ النبى صلى الله عليه وسلم مصَّ جُرْحَه حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل: مجه (ألقه)، فقال: لا والله لا أمجه أبدا”.
إن حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر من غيرهم، وذلك لأن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بعلو قَدْرِهِ وسمو منزلته صلى الله عليه وسلم أعلم وأعرف، ومن ثم كان حبهم له صلوات الله وسلامه عليه أشد وأعظم وأصدق، فكانوا أحرص الناس على طاعته، وأسرعهم إليها، وأحبُّوا ما أحبّ، وكَرِهوا ما كَرِه، وقد ظهر هذا الحب واضحاً جلياً وبصورة عملية في مواقف كثيرة، ومنها ما حدث في غزوة أحد، فكان لسان حالهم ومقالهم: (نحري دون نحرك)، (كل مصيبة بعدك جلل (صغيرة) يا رسول الله).