السلف الصالح
إنّ السلف لكلّ أمّةٍ هم القوم السابقون المتقدّمون، وضدّهم الخلف؛ وهم المتأخّرون الذين يأتون بعدهم ويخلفونهم، وممّا يوضّح معنى الخلف قول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا)، وتجدر الإشارة إلى أنّ سلف الأمّة الإسلامية هم الذين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى، ودليل ذلك ما رواه البخاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنّه حدّد سلف الأمة بالقرون الثلاثة الأولى، حيث قال: (خيرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الذين يَلُونَهُمْ، قال عِمْرانُ: فلَا أَدْرِي أذَكَرَ بعدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثلاثاً، ثُمَّ إنَّ بعدَكُمْ قوماً يشْهَدُونَ ولَا يُسْتَشْهَدُونَ، ويخونونَ ولَا يُؤْتَمَنُونَ، وينذُرونَ ولَا يُوَفُّونَ، ويَظْهَرُ فيهم السِّمَنُ)،[٢] والقرن مئة عام على الأرجح، فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لعبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه: (لتبلُغنَّ قرناً)، فمات ذلك الصحابي في الشام، وقد بلغ من العمر مئة سنةٍ، فبذلك تكون فترة السلف محصورةٌ في ثلاث مئة عامٍ، وقد عاش خلال تلك الفترة خمسة أجيالٍ من المسلمين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، وأتباع التابعين، وتبع الأتباع، وتبع تبع الأتباع، ويرجع سبب مدح الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- لهم بقوله: (خير القرون) إلى أنّهم عاشوا على منهاج النبوّة، وابتعدوا كلّ البُعد عن البِدع والانحرافات، فصلُح بذلك سلوكهم واعتقادهم، وكان أغلب ذلك الزمان صالحين، والقلّة القليلة هم الفاسدون، وأمّا الذين من بعدهم فوقعوا في البِدع وسوء المعتقد، حتى أصبح الطالحون أكثر من الصالحين.
إقرأ أيضا:متى كانت حادثة الإسراء والمعراجمجتمع السلف الصالح
على الرغم من أنّ مجمتع السلف الصالح وصل إلى أعلى درجات الإنسانية، وأسمى مقامات البشرية بعد النبوّة؛ إلّا أنّهم لم يكونوا ملائكةً يعيشون على الأرض، بل كانوا بشراً منساقين مع فطرتهم، يعلمون أنّ التديّن تزكيةً للفطرة، لا تمرّد عليها، فكانوا يمشون في الأسواق، ويأكلون الطعام، ويتفاوتون في القوّة، والعقل، والإيمان، والنشاط، ويصيبهم الفرح، والغضب، والحزن، والرضا، بالإضافة إلى إمكانية أن يقع منهم الخطأ، كما حدث في المدينة المنورة عندما غشّ رجلٌ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من غَشَّ فليسَ منِّي)،وكما حصل مع الرجل الذي شكته زوجته للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنّ صلاة الفجر كانت تفوته بسبب ثقل نومه، فلمّا سأله الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- عن ذلك، قال الرجل: (فإنّا أهل بيتٍ قد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس)، فقال له النبي: (فإذا استيقظتَ فصلِّ)، وكما حصل مع الرجل الذي أصاب قبلةً من امرأةٍ، فذهب إلى الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- واعترف بذنبه، فأنزل الله -تعالى- قوله: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكرى لِلذّاكِرينَ)، وفي الحقيقة كان فيهم من يريد الدنيا في مواقفٍ خاصّةٍ، ولكنّ أغلبهم استحبّوا الآخرة على الدنيا، وإن لم ينسوا نصيبهم من الدنيا.
إقرأ أيضا:علامات القيامة التي ظهرتعلوّ همة السلف الصالح
ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في علوّ الهمة، وممّا رُوي عنهم:
- روى الذهبي أنّ الحافظ عبد الغني المقدسيّ كان لا يضيّع شيئاً من وقته بلا فائدةٍ، حيث كان يصلّي الفجر، ثمّ يُلقّن الناس القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف، ثمّ يتوضأ، ويصلّي ثلاث مئة ركعةٍ إلى ما قبل الظهر، وينام قليلاً، ثمّ يصلّي الظهر، ويستمرّ في النسخ والتسميع إلى المغرب، ثمّ يصلّي من المغرب إلى العشاء، ثمّ يصلّي العشاء، وينام إلى نصف الليل، ثمّ يقوم الليل إلى قُرب الفجر، وكان يتوضأ في الليلة الواحدة سبع أو ثمان مرّاتٍ، ويقول: (ما تطيب لي الصلاة إلّا ما دامت أعضائي رطبةً)، ثمّ ينام نومةً خفيفةً إلى الفجر، وهكذا كانت حياته.
- روى أبو القاسم بن عقيل، أنّ أبا جعفر الطبري سأل أصحابه إن كانوا ينشطون لتاريخ العالم من لدن آدم -عليه السلام- إلى وقتهم، فسألوه عن عدد صفحاته، فأخبرهم بأنّه نحو ثلاثين ألف ورقةٍ، فقالوا: (هذا ممّا تفنى الأعمار قبل تمامه)، فقال: (إنّا لله ماتت الهمم)، ثمّ اختصر التاريخ في ثلاث آلاف ورقةٍ، وسألهم عن التفسير كذلك، ثمّ أملاه في ثلاث آلاف ورقةٍ أخرى