يستطيع الإنسان أن يعيش أسابيع عديدة بدون طعام.. ولكنه لا يستطيع العيش أسبوعًا واحدًا بدون ماء.. الماء ذلك العنصر العجيب عديم اللون والطعم والرائحة الذي يكمن فيه سر الحياة.. وهو تلك المادة الوحيدة على الأرض التي توجد في الطبيعة بحالاتها الثلاث (الصلبة والسائلة والغازية)، والتي تمتلك من الخصائص الفيزيائية ما يعتبر حالة استثنائية بين بقية المواد.. فما هو الماء؟ وما سر تميزه؟
قبل المضي في تفصيل خصائص تلك المعجزة الطبيعية التي وهبنا الله إياها، لنقف معها هذه الوقفة..
وكان عرشه على الماء:
يقول الخالق عز وجل: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَــآءِ) هود (6) وقد جاءت السنة مفسرة لهذه الآية ففي الحديث الذي رواه البخاري في كتاب بدء الخلق (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض) وفي رواية (ثم خلق السماوات والأرض). يقول ابن حجر: معناه أن الله خلق الماء سابقًا ثم خلق العرش على الماء. أما ترتيب المخلوقات بعد العرش والماء فقد صرح بها الحديث (كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن). وقد روى الإمام أحمد والترمذي حديثا مرفوعا (أن الماء خلق قبل العرش) كما روى السدي في تفسيره للآية بأسانيد متعددة (أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء).
فالماء أول المخلوقات، ولا عجب إذن في تفرده بخصائص لا يشاركه فيها عنصر آخر في الطبيعة.
خصائص الماء الفريدة:
1- قطبيته التي جعلته يعمل كمغناطيس:
شكل رقم(1) الماء عنصر قطبي جزئيٌّا. فجزيء الماء يتكون من اتحاد ذرة أوكسجين (تحتوي على ست إلكترونات في مدارها الأخير) مع ذرتين هيدروجين (تمتلك كل منهما إلكترونا واحدا) برابطة تسمى الرابطة التساهمية. تعتبر هذه الرابطة من أقوى الروابط على الإطلاق، لذا فليس من السهل كسرها واستعادة الأوكسجين والهيدروجين من الماء.
تشكل البحار والمحيطات (97.32 %) من نسبة المياه على الأرض، غير أنه لا يمكن الاستفادة منها لملوحتها. ويخزن حوالي (2.14%) من المياه على هيئة جبال ثلجية كمخزون إضافي للأرض. وتقوم حياة البشرية كلها على المياه العذبة التي تشكل أقل من (0.6 %) من مجموع المياه على الأرض والموجود على هيئة مياه جوفية وسطحية وأنهار. ولكن رحمة المولى اقتضت تعويض الأرض بما تحتاجه من المياه بالقدر المناسب عن طريق الدورة المائية المعروفة بدورة المطر التي يوضحها الشكل. (الصورة والنسب مأخوذة من موقع http://ga.usgs.gov/edu).
والسـؤال كيف تنتظم ذرات الأوكسجين والهـيدروجــين لتكــون جزيء الماء ؟ إن أول ما يتبـــادر للذهن أنها تنتظم على هيئة خط مستقيم ((H-O-H، غير أن الأدلة المعملية أثبتت أن تلك الذرات تنتظم بهيئة لاخطية بحيث تكون الزاوية بين ذرتي الهيدروجين حوالي (105) كما هو موضح بالشكل (2 ــ أ) الأمر الذي جعل البعض يطلق على جزيء الماء اسم (رأس الفأر). شكل رقم (2-أ)
إقرأ أيضا:والجبال اوتادا
من جانب آخر نجد أن توزيع الإلكترونات عبر الرابطة التساهمية بين الذرات غير متجانس. فذرة الأوكسجين تقوم بجذب الإلكترونات نحوها أكثر مما تفعل ذرة الهيدروجين الأمر الذي يعطي ذرة الأوكسجين شحنة جزئية سالبة (-) بينما يترك على كل ذرة من ذرتي الهيدروجين شحنة جزئية موجبة (+). إن هذا الانحياز للإلكترونات إضافة إلى ذلك الترتيب اللاخطي للذرات يجعل جزيء الماء جزيئا غير متعادل كهربيا وهو ما يعرف في لغة الكيمياء بـ (الجزيء القطبي). شكل رقم(2- ب)
يعود السبب في كثير من خصائص الماء إلى قطبيته. فقدرة الماء الفائقة على الإذابة (التي لا تقدر بثمن للكائنات الحية) تعود إلى هذه القطبية. فبها أصبح الماء من أقوى المذيبات حيث يسهم بفعالية في إتمام عمليات الهضم وتجديد الدم والتخلص من المواد السامة (الفضلات) في أجسام الكائنات العضوية وغير العضوية على حد سواء. وبفضل هذه القدرة على الإذابة تستطيع الأنهار والمحيطات نقل الأملاح والمعادن من مكان لآخر على سطح الأرض.
الآن وقد رأينا مما يتكون جزيء الماء الواحد لننظر كيف ترتبط هذه الجزيئات معًا لتكون عنصر الماء؟ وفقًا لقانون كولوم (الذي ينص على أن الشحنات الكهربية المختلفة تتجاذب) تنجذب ذرة الأوكسجين (السالبة) في جزيء نحو ذرتي الهيدروجين (الموجبة) في الجزيء المجاور، و بتكــرار هـــذه العمليـــة يتكون الماء كمـــا في الشكل (2 ــ ب). يطلق على هذا النوع من الروابط الرابطة الهيدروجينية. هذه الرابطة وإن كانت تصنف من ضمن الروابط الهشة سريعة الكسر إلا أنها تتميز بأنها سريعة التكون أيضاً. ولنا أن نتخيل عنصر الماء كسلسلة من المغناطيسات المتلاصقة، إذا حاولنا إخراج أحد تلك المغناطيسات من مكان ما فإنه سرعان ما يلتصق في مكان آخر. وهنا يكمن في سر قوة تلاصق الماء وتماسكه والتي نتحدث عنها في الفقرة التالية بمزيد من التفصيل.
إقرأ أيضا:نقص الارض من اطرافها2- أشد السوائل تماسكا وتلاصقا:
عند وضع سائل ما في إناء فإن الرابطة التي تربط جزيئاته بعضها ببعض تنقطع عند السطح، ونتيجة لذلك تبدو جزيئات سطح السائل مجذوبة نحو الداخل. وبمصطلح الفيزيائيين تسمى ظاهرة شد جزيئات سطح سائل ما بعضها لبعض بالتوتر السطحي وتقاس بالقوة المؤثرة على وحدة الأطوال (Dyne/cm). ووفقا لهذه القوة يبدو سطح السائل كقطعة جلد مشدودة على إطار. وباستثناء الزئبق فإن عنصر الماء يمتلك أعلى قيمة توتر سطحي بين جميع السوائل. تبدو هذه الظاهرة جلية عندما نملأ كوبا بالماء إلى حافته ولا ينسكب.. وعندما نرى العناكب تسير على سطح المياه الراكدة دون أن تبتل أقدامها وكأنها تسير على سطح صلب.. وفي ميل الماء إلى التكور على هيئة قطرات بدل الانتشار على السطح الذي يسكب عليه… وفي تكوين ذلك الحاجز غير المرئي بين المياه العذبة والمالحة عند مصاب الأنهار في البحار والتي جاءت الإشارة إليها في قوله سبحانه: )وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَـيْـنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا( الفرقان (53) وفي الآية الكريمة إشارة واضحة إلى شدة تلك القوة الحاجزة والتي تؤكد عظم التوتر السطحي للماء.
ولعل من أهم خصائص الماء الناتجة عن التوتر السطحي هي قدرة الماء الفائقة على تسلق جدران الوعاء الذي يوضع فيه، وكلما كان قطر الجدار الذي يتسلقه صغير كلما أرتفع فيه مسافة أعلى. هذه الخاصية الحيوية للماء والمعروفة باسم الخاصية الشعرية هي التي تتيح للماء – والأملاح المذابة فيه- فرصة الحركة من جذور النباتات إلى أعلى أغصانها، كما أنها المسؤولة عن سريان الدم في الأوعية الدموية الدقيقة في أجسامنا.
3- استقراره الحراري المثالي:
لعل خواص الماء الحرارية من أكثر خصائصه شذوذا وغرابة. يبدو ذلك جليٌّا عند مقارنة درجة غليان الماء بدرجات غليان العناصر الهيدروجينية الأخرى المشابهة له في التركيب الكيميائي مثل كبريتات الهيدروجين أو الميثانول أو الإيثانول. فكما يتضح من جدول (1) تمتلك تلك العناصر درجات غليان منخفضة جدًا رغم كبر وزنها الجزيء، ولو أن الماء يتبع نفس سلوك تلك العناصر لكانت درجة غليانه وفقًا لوزنه الجزيء الصغير عند درجة (-70مْ) وليس عند (100مْ) كما هو معروف (عند الضغط الجوي النظامي). أي لولا هذا الشذوذ لوجد الماء على الأرض وعند درجات الحرارة الاعتيادية في حالة بخار فقط !!
ومن مظاهر استقرار الماء الحراري أيضا ارتفاع معامل الحرارة النوعية له. مما يعني أن الماء يحتاج إلى كمية كبيرة جدًا من الحرارة حتى يسخن مقارنة مع العناصر الأخرى. فإذا وضعنا قدرا فارغا على النار، فسرعان ما يسخن حتى الاحمرار. بينما لو سكبنا فيه بعض الماء ووضعناه من جديد لاستغرق الماء وقتا كبيرا حتى يسخن. ذلك أن الحرارة النوعية للماء أكبر عشر مرات من الحرارة النوعية للحديد. ولو ذهبنا إلى شاطئ البحر في وقت الظهيرة لوجدنا الرمل أشد حرارة من البحر بينما الوضع ينعكس تماما في الليل.
والسبب أن الحرارة النوعية للماء أكبر بحوالي خمس مرات من الحرارة النوعية للرمل. فالماء يسخن ببـطء ويفقد حرارته أثناء تبريده أيضا ببطء. بينما الرمل يسخن بسرعة ويبرد بسرعة كذلك. وبقي أن نـذكر أن الحرارة النوعية للماء تساوي (1 كالوري / جم)، بمعنى أنه لرفع حرارة واحد جرام من الماء درجة مؤوية واحدة فإننا نحتاج إلى واحد كالوري. وكما أن معامل الحرارة النوعية للماء مرتفع فكذلك معاملي الحرارة الكامنة للتبخر وللإنصهار فإنه لتحويل جرام واحد من الماء عند درجة (100مْ) إلى بخار عند نفس الدرجة نحتاج إلى (540) كالوري !! ولإذابة جرام واحد من الجليد عند درجة (0مْ) إلى ماء عند نفس الدرجة نحتاج إلى (80) كالوري. ومن فوائد الاستقرار الحراري للماء أن درجة غليان الماء ودرجة تجمده تستخدمان كنقطتين مرجعيتين لمعظم الترمومترات. كما أن حرارته النوعية العالية جعلته يستخدم كمبرد في راديتر السيارات وفي كثير من المصانع. وبفضل الحرارة العالية اللازمة لتبخر الماء أو لتجمده نتج فصلا الربيع والخريف كمرحلتين انتقاليتين بين الشتاء والصيف.
4- منحنى الكثافة الفريد:
إذا أخـذنا حجــماً معيناً من الماء وقمنا بتبريده فإن حجمــه ينكمــش وبالتــالي كثــافته تزداد مثله مثل أي ســائل آخر. غير أن المــدهش في الماء أن هذه الخـاصية تتوقف عندما تصل درجة حرارة الماء إلى (4مْ). إذا قمنا بتبريد الماء أكثر فإن حجمه بدلا من أن ينكمش يتمدد وتقل كثافته تبعا لذلك. حتى أنه حين يتجمد – أي تصبح درجة حرارته صفرا مؤويا- فإن كثافته تكون قد انخفضت بمقدار (10%) عنها عند درجة حرارة (4مْ) كما هو موضح بالشكل (3).
وهذا يفسر لماذا تنفجر أنابيب المياه عند التجمد. ولماذا يطفو الجليد على سطح الماء ولا تتجمد البحيرات من الأسفل إلى الأعلى. أنها لخاصية فريدة تعكس بعض تجليات اسم الحفيظ ــ سبحانه ــ الذي حفظ للكائنات البحرية في المناطق المتجمدة حقها في الحياة.