من بين الصلب والترائب
ما هو “الصُّلْبِ” وما هي “التَّرَائِبِ” الواردة في سورة الطارق؟
قال الله تعالى: “فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ” (سورة الطارق 5-7).
تعريف الصلب هو كما جاء في “تاج العروس” أن “كُلّ شَيءٍ من الظَّهْرِ فِيه فَقَارٌ فَذَلِك الصُّلْبُ”. وأما الترائب فقد عرفها ابن منظور في “لسان العرب” بقوله: “التَّرائبُ مَوْضِعُ القِلادةِ من الصَّدْر.. وقيل: التَّرائبُ عِظامُ الصدر”.
وإن كان هناك من يتوسع في المدلولات ولا يقف عند المعنى اللغوي المباشر، كما ورد عن ابن عباس والضحاك وسفيان بأن الترائب هي اليدان والرجلان والعينان.
أكثر من تفسير
هناك من يفسر هذه الآية بأن المقصود هو منشأ الخصيتين والمبيضين لدى الجنين، فهما ينشآن في الحدبة التناسلية قبل أن يتحدد جنس الجنين، وهذه الحدبة التناسلية تقع بين العمود الفقري (الصلب) والأضلاع الأمامية (الترائب)، وبعد ذلك تنزل الخصيتان مع نمو الجنين وفي الشهر السابع تستقران في كيس الصفن، بينما ينزل المبيضان إلى حوض الأنثى. ثم بعد ذلك تبقى علاقة الخصيتين والمبيضين بذلك الموضع مستمرة طيلة حياة الإنسان عبر تغذيتهما بالدم والأعصاب من ذلك الموضع تحديدا، وعلى هذا فإن منشأ مصادر الماء الدافق عند الرجال (الخصيتين) وعند النساء (المبيضين) هو ذلك الموضع الواقع بين الصلب والترائب، وكذلك التغذية بالدم وارتباطها العصبي، فالعصب لا يأتي من أسفل العمود الفقري كما هو متوقع، وإنما من ذلك الموضع.
إقرأ أيضا:شهادات المتخصصين حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريموهذا تفسير واضح ومقبول، لكني أميل إلى أن الآية القرآنية فيها كناية عن الرجل بالصلب والمرأة بالترائب، وأن الماء الدافق الذي ينتج الذرية يقع بينهما، من الرجل عبر الجهاز التناسلي، ومن المرأة بالسائل المتدفق من حويصلة “غراف” حيث يحمل البويضة إلى مكان تلقيحها كل شهر.
الصلب كناية عن الرجل
لقد اعتادت العرب أن تنسب الذرية إلى الصلب كناية ومجازا، فهو كناية عن ارتباط القوة بالذرية، وهو مجاز لأن العرب يعرفون جيدا أن النطفة لا تأتي من الظهر وإنما مصدرها هو الخصيتان، وليس هناك من يجهل هذا الأمر سواء عند العرب أو عند غيرهم من الأمم؛ فقد كان بعض الرقيق قديما يتم إخصاؤهم حتى تنقطع ذريتهم وشهوتهم، وهذه من الأمور المعروفة حتى عند البادية قديما وحديثا في إخصاء الماشية، وجرت عادتهم على ذلك.
وعليه فإن عزو العرب الذرية إلى الصلب هو من باب المجاز والكناية، وقد وردت في القرآن على هذا المنوال المجازي، وهي مثل استخدام القرآن للفظة “جناح” في قوله تعالى: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ… الآية” (الإسراء 24)، فليس للإنسان جناح حقيقي يخفضه لوالديه، كما أنه ليس للرسول صلى الله عليه وسلم جناح حقيقي يخفضه للمؤمنين في قوله تعالى: “لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر 88). والأمثلة كثيرة في ذلك.
إقرأ أيضا:معجزة: القرآن يتوعد أبا لهبفالعرب يعلمون جيدا- كسائر الأقوام- مصدر الماء الذي تنتج منه الذرية عند الرجال (والذكور عامة) كما أوضحنا، لكنهم يكنون عن ذلك بالصلب (الظهر) ترفعا واحتشاما عن ذكر الأعضاء التناسلية، وعلى هذا جرت عادتهم كما هي في تعبيراتهم الأخرى التي تستدعي الترفع والاحتشام مثل تعبير “الذهاب إلى الخلاء” و”قضاء الحاجة”، ومثل هذا نجده أيضا عند العامة الذين لم تفسد فطرتهم في هذا العصر.
وعلى ذلك جاءت لغة القرآن موافقة للغة العرب فزادتها سموا، بل إن القرآن يستخدم دائما الرمزية والمجاز إذا تحدث عن الأحكام التي تتعلق بالمعاشرة الزوجية. ومن التعبيرات القرآنية الشهيرة قوله تعالى: “وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ… الآية” (المائدة 6)، فالغائط هو المنخفض من الأرض، للدلالة على قضاء الحاجة. وهذا الأسلوب لا يدركه الغالبية من الملحدين الذين اعتادوا على الإسفاف في ألفاظهم حتى صار ذلك طبعا لهم كما نرى في أكثر حساباتهم.
الترائب كناية عن المرأة
وهذه اللفظة يغلب ارتباطها عند العرب بالنساء، فيندر أن تجد من يتحدث منهم عن ترائب الرجال. قال امرؤ القيس:
مُهَفْهَفَة ٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ :: ترائبها مصقولة ٌ كالسجنجل
والترائب عند المرأة هي أيضا موضع الثديين الذين يتغذى منهما الرضيع. فإذا كان موضوع الكلام هو الحديث عن الذرية فإن نسبة الترائب إلى المرأة أدعى، وكنايتها عن المرأة أقرب للفهم.
إقرأ أيضا:شهادات المتخصصين حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريموالعرب الذين خاطبهم القرآن بلغتهم يعلمون أن ماء المرأة لا علاقة له بترائبها.
تهافت الشبهة
الشبهة التي تتردد أحيانا حول هذه الآية لدى الملاحدة والنصارى هي أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان يظن أن المني يأتي من مكان في الصدر يقع بين الصلب والترائب، وبناء على هذا الاعتقاد كتب هذه الآية في القرآن.
وهذه التهمة ساقطة وغبية، وقد أشرنا إلى وجه الغباء، وهو أن الناس منذ بداية التاريخ المعروف حتى هذا العصر يدركون أن المني يتكون عند البالغين في الخصيتين، فالبناء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد كذا وكذا هو بناء على أساس غير صحيح.
الخلاصة
لقد الآية رمزت للرجل بدلالة ذلك الجزء من جسده (الصلب)، وهو الذي يرتبط عند العرب بالذرية، ورمزت للأنثى بالمكان الذي تتغذى منه تلك الذرية.
فالصلب يرمز للرجل ويرمز للذرية، والترائب ترمز للأنثى وترمز للذرية، فكان الجامع بين الصلب والترائب هو الذرية التي تتحدث الآية عن خلقها من ماء دافق.
هل هناك إشكال في تعدد التفسيرات؟
لا يقع الإشكال إلا عندما تكون للنص دلالة حرفية وصريحة واحدة فقط ينتج عنها تعارض أو تناقض أو تضارب، وهو ما يسميه القرآن “اختلافا” كما في قوله تعالى: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا” (النساء 82).
أما إذا تعددت الدلالات والمعاني والتفسيرات، وكانت كلها مبنية على أسس سليمة بلا تعسف أو لوي لأعناق النصوص، فإن الإشكال يرتفع وينتهي.
وعلى كل حال، فإن موضوع الآية يدور حول قدرة الله عز وجل على خلق الإنسان من ماء دافق، وقياسا على ذلك قدرته على بعثه من جديد “إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ”..
وهذه الرسالة الأساسية واضحة ومفهومة تماما حتى لدى عامة الناس والأميين منهم، بغض النظر عن تفسير الصلب والترائب تفسيرا محددا، فالإعجاز في خلق الإنسان من ماء قائم مهما كان تفسيرنا لمدلول الصلب ومدلول الترائب، ولهذا فلا إشكال في تعدد التفسيرات لهاتين المفردتين، بل إن من عجائب القرآن تعدد وجوه التفسير بلا تعارض أو تناقض.