المزاح والمداعبة شيء مُحَبب إلى النفس، ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط الشرع، ولا يترتب عليه ضرر، بل هو مطلوب ومرغوب، خاصة مع الصغار والأطفال، وذلك لأن النفس يعتريها السآمة والملل، وليس أدل على أهمية المزاح والحاجة إليه، مما كان عليه نبينا وحبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد كان يمازح أصحابه ويداعب أهله، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم جزءاً من اهتمامه ومداعباته .. فمن مكارم أخلاقه وجميل صفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلطفه بالأطفال ومداعبته لهم، وإدخال السرور عليهم .
ومن المعلوم أنه لا يوجد من هو أكثر حملا لِهَمِّ الدين واهتماما بالدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وليس هناك من تعددت لديه الواجبات كما تعددت لنبينا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، ومع ذلك ففي السيرة النبوية الكثير من المواقف والأمثلة الدالة على مدى تلطفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأطفال ومداعبته لهم، وإدخال السور عليهم، ومن ذلك :
مداعبته صلى الله عليه وسلم محمود بن الرُّبيع :
عن ابن شهاب الزهري، عن محمود بن الربيع ـ رضي الله عنه ـ قال: ( عَقلتُ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلوٍ ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: ” قوله ” عقلت “: هو بفتح القاف أي: حفظت، قوله: ” مجة ” بفتح الميم وتشديد الجيم ـ والمج هو إرسال الماء من الفم ـ، وقيل لا يسمى مجا إلا إن كان على بعد، وفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع محمود إما مداعبة منه، أو ليبارك عليه بها كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة ” .
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: ” وقال المهلب: فيه جواز سماع الصغير وضبطه للسنن، وفيه: جواز شهادة الصبيان بعد أن يكبروا، فيما علموه في حال الصغر ” .
مع جابر بن سمرة :
عن جابر بن سَمُرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( صليتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة الأُولى ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه، فاستقبلهُ وِلدانٌ فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدَّيَّ فوجدت لِيَدِهِ بردًا أو ريحًا، كأنما أخرجها من جؤنة عطَّار ) رواه مسلم .
قال النووي: ” صلاة الأولى: هي صلاة الظهر، ( ثم خرج ) أي: من المسجد ( إلى أهله ) أي: متوجها إلى إحدى الحجرات الشريفة، ( وخرجت معه، فاستقبله ولدان ) ، جمع وليد وهو الصبي، ( فجعل ) أي: شرع، ( يمسح ) أي: بيديه الكريمتين، ( خدي أحدهم واحدا واحدا )، ( وأما أنا فمسح خدي ) بصيغة التثنية، وفي نسخة بالإفراد على إرادة الجنس ( فوجدت ليده بردا ) أي: راحة ( أو ريحا ) أي: رائحة طيبة، والظاهر أن ( أو ) بمعنى الواو أو بمعنى : بل، ( كأنما أخرجها ) أي: إذا أخرج يده من الكم فكأنه أخرجها، (من جؤنة عطار) بضم الجيم وسكون الهمز أي: سلته أو حقته .. وفي الحديث بيان طيب ريحه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ، وهو ما أكرمه الله سبحانه وتعالى به ” .
أنس :
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أحسن الناس خُلُقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟، قال : قلت: نعم ، أنا أذهب يا رسول الله ) رواه مسلم .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم يمازح أنساً ـ رضي الله عنه ـ قائلا : ( يا ذا الأذنين ) رواه أبو داود .
( يا ذا الأذنين ) يعني: أنه يمازحه، وهو يمزح ولا يقول إلا حقاً .
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: ” وقيل إن هذا القول من جملة مداعباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولطيف أخلاقه ” .
أبو عُمير :
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خُلقًا، وكان لي أخٌ يُقال له: أبو عُمير – أحسبه فَطِيمًا – وكان إذا جاء ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يا أبا عُمير ما فعل النُّغير؟ ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: ” نُغير كان يلعبُ به، أي طير صغير كان يلعب به أبو عمير، فمات النُّغير، فرآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حزينًا على النغير، فداعبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” .
وقال: ” وذكر ابن القاصّ في أوّل كتابه أنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنّهم يروون أشياء لا فائدة فيها، و مثل ذلك التحديث بحديث أبي عمير هذا، قال: و ما درى أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه و فنون الأدب و الفائدة ستين وجهاً، ثمّ ساقها مبسوطة ” .
وقال ابن القاص: ” وفيه جواز الممازحة، وتكرير المزح، وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه ” .
وقال النووي: ” وفى هذا الحديث فوائد كثيرة جدا منها: جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الطفل وأنه ليس كذبا .. وجواز المزاح فيما ليس إثما .. وجواز تصغير بعض المسميات .. وجواز لعب الصبي بالعصفور وتمكين الولي إياه من ذلك .. وجواز السجع بالكلام الحسن بلا كلفة .. وملاطفة الصبيان وتأنيسهم .. وبيان ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه من حسن الخلق وكرم الشمائل والتواضع ” .
مداعبة أم خالد باللغة الحبشية:
عن أم خالد بنت خالد بن سعيد ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: سَنَهْ سَنَهْ، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي ( زجرني ونهرني )، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: دعها، ثم قال: أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي ) رواه البخاري .
( سنه، سنه ) هي بالحبشية: حسنة، حسنة “.
وفي مداعبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَمَة بنت خالد بن سعيد بن العاص المكناة بأم خالد ـ رضي الله عنها ـ نرى كيف اتسع وقته واهتمامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لإدخال السرور على طفلة صغيرة، ولا عجب فهو الذي سئل عن أحب الأعمال إلى الله ـ عز وجل ـ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( سرور تدخله على مسلم ) رواه الطبراني .
إن مداعبة الصِّغار لها أكثر من بُعد طيب وأثر إيجابي في نفس الصغير وأهله، ومن تأمل مزاحه ومداعباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحمود بن الربيع، وجابر بن سمرة، وأبو عمير، وأنس، وأم خالد: أمَة بنت خالد بن سعيد بن العاص وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ نرى أن من هديه وسنته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ اهتمامه بإدخال السرور على الصغار والأطفال .