ملخص المقال
- محمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى، هو آخر من كتب من الكبار في المغازي والسير، وهو أحد تلامذة الواقدي وكاتبه، فمن هو محمد بن سعد؟ وماذا عن طبقاته؟
يعتبر محمد بن سعد آخر الكتاب الكبار في المغازي والسير، وآخر جامعي السيرة النبوية من المتصلين بالمصادر الأولى (الواقدي وابن إسحاق وموسى بن عقبة)، وهو صاحب كتاب الطبقات الكبرى أول ما أُلِّف في هذا الموضوع، وكان أحد النماذج الأولى في موضوع التراجم التي تطورت منهجيته بعد ذلك.
من هو محمد بن سعد؟
هو محمد بن سعد بن منيع الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله البصري، المعروف بابن سعد، وبكاتب الواقدي، لكونه لازم شيخه محمد بن عمر الواقدي زمنًا طويلًا، وكتب له [1].
مولد محمد بن سعد ونشأته
لقد أجمعت المصادر التي ذكرت ولادته أنها كانت في البصرة سنة 168هـ، وكانت البصرة مركزًا علميًا هامًا في ذلك العصر وقد ازدانت بعدد كبير من العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء، فشًبَّ في تلك البيئة العلمية، وأفاد من علماء عصره، فسمع من الكثيرين منهم [2].
رحلات محمد بن سعد العلمية
قدم محمد بن سعد بغداد وسكن فيها ملازمًا لشيخه محمد بن عمر الواقدي (ت: 207هـ) ، يكتب له مدة طويلة من الزمن فعُرف به، كما قدم الكوفة سعيًا في طلب العلم، وكانت له رحلة إلى المدينة المنورة، وأخرى إلى مكة. ولا ريب في أن رحلته إلى المدينة تمت قبل سنة 200هـ، فهو يذكر أنه لقي فيها بعض الشيوخ عام 189هـ كما أن أكثر الذين روى عنهم من أهلها أدركتهم المنية قبل مطلع القرن الثالث.
وفي أثناء حله وترحاله، كان شغله الشاغل هو لقاء الشيوخ وكتابة الحديث وجمع الكتب، ولذلك اتصل بأعلام عصره من المحدثين فروى عنهم وقيد مروياته، وأفاد منها في تصنيف كتبه حتى وصف بأنه كان كثير العلم، كثير الحديث والرواية، كثير الكتب.
شيوخ ابن سعد وتلامذته
إن محمد بن سعد كان على اتصال بأكبر رجال الحديث في عصره، سواء أكانوا شيوخًا أم تلامذة. ومن يطلع على الطبقات يجد له شيوخًا كثيرين منهم سفيان بن عيينة وأبو الوليد الطيالسي ومحمد بن سعدان الضرير ووكيع بن الجراح وسليمان بن حرب وهيثم والفضل بن دكين والوليد بن مسلم ومعن بن عيسى وعشرات غيرهم. ولو راجع القارئ تراجم هؤلاء الشيوخ في كتب الرجال، لوجد معظمهم ممن لا يشك في عدالته. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن المادة التي نقلها ابن سعد قد وجهت بالنقد الضمني لأنه تحرى قبل نقلها أن تكون في الأكثر مأخوذة عن العدول الثقات. وهذا الموقف هو الذي كسب لابن سعد تقدير معاصريه ومن بعدهم [3].
أما تلامذته فهم كثيرون أيضًا، ومنهم أحمد بن عبيد وابن أبي الدنيا والبلاذري والحارث بن أبي أسامة والحسين بن فَهُم وغيرهم.
مكانته الاجتماعية
لا تتوفر المعلومات الكثيرة التي توضح مكانته الاجتماعية ولكن يظهر من بعض الروايات أنه كان معروفًا في المجتمع، مبرزًا في فنه. حيث يروي الخطيب البغدادي عن إبراهيم الحربي، قوله: “كان أحمد بن حنبل يوجه في كل جمعة بحنبل بن إسحاق إلى ابن سعد، يأخذ منه جزأين من حديث الواقدي، ينظر فيهما إلى الجمعة الأخرى، ثم يردهما ويأخذ غيرهما”. وهذا يدل على الصلة العلمية بينهما.
وكذلك فإن ابن سعد كان أحد المحدثين السبعة الذين طلب المأمون إشخاصهم إليه، ثم طلب الإشهاد عليهم بعد إجابتهم، مما يدل على مكانتهم وأثرهم في مجتمعهم. فقد كان ابن سعد من وجهاء مدينة بغداد، بل ومن نخبة علمائها. وقد عاشر الشيوخ فأفاد منهم، وخالطه التلاميذ فأفادوا منه، ولم يكن منطويًا على نفسه [4].
ثقافة ابن سعد
أفاد ابن سعد من علماء عصره في البصرة وبغداد والكوفة والمدينة ومكة، هذه المدن التي كانت صاحبة الريادة العلمية في تلك الحقبة الزمنية التي عاشها. فلا شك أنه نهل من معينها الصافي، ورشف من تراثها الإسلامي العريق، وظهر أثر ذلك في كتابه (الطبقات الكبرى) الذي يوضح كثيرًا من جوانب ثقافته.
وقد شملت دراسة ابن سعد القرآن والحديث والفقه والأنساب والتاريخ وعلم الرجال والغريب واللغة والنحو، إلاَّ أنه لم يؤلف سوى كتابه (الطبقات الكبرى) الذي حوى مادة علمية نفيسة في الحديث والأنساب، والتاريخ، ونقد الرجال. ويبدو أن هذه العلوم هي التي استأثرت باهتمام ابن سعد وغلبت على ثقافته.
ثناء العلماء عليه
ولقد شهد له من عاصره، ومن بعده من العلماء بالعلم والفضل، وبمعرفته بالحديث وغيره. فقال عنه تلميذه وراوي كتابه (الطبقات) الحسين بن فَهُم: “كان كثير العلم كثير الحديث والرواية كثير الكتب، كتب الحديث وغيره من كتب الغريب والفقه”. وقال ابن النديم (ت: 385هـ): “كان عالمًا بأخبار الصحابة والتابعين”. وقال الخطيب البغدادي (ت: 463هـ): “كان من أهل العلم والفضل”. ثم روى بسنده عن محمد بن موسى البربري، حيث قال: “الذين اجتمعت عندهم كتب الواقدي أربعة أنفس؛ محمد بن سعد الكاتب أولهم”. وقال ابن تغري بردي (ت: 874هـ): “كان إمامًا فاضلًا عالمًا حسن التصانيف، ونقلنا عنه كثيرًا في الكتب”.
وقال عنه الذهبي (ت: 748هـ): “الحافظ العلامة”، ووصفه مرة بـ “الحجة”، وبأنه “أحد الحفاظ الكبار”، وبأنه “صدوق، وقاله أبو حاتم وغيره”. وقال الصفدي (ت: 764هـ): “وكان صدوقًا ثقة”. وقال اليافعي (ت: 768هـ): “الإمام الحبر الحافظ”. وقال ابن الجزري (ت: 833هـ): “حافظ مشهور”. وقال ابن حجر (ت: 852هـ): “أحد الحفاظ الكبار، والثقات المتحرين”، وقال أيضًا: “صدوق فاضل.
ووصفه السيوطي (ت: 911هـ) بأنه حافظ [5].
وكاد ابن سعد يسلم من جرح النقاد لولا أن يحيى بن معين كذَّبه، وذلك فيما يرويه الخطيب البغدادي بسنده عن الحسين بن فَهُم، قال: “كنت عند مصعب الزبيري فمر بنا يحيى بن معين فقال له مصعب: يا أبا زكريا حدثنا محمد بن سعد الكاتب بكذا وكذا -وذكر حديثًا- فقال له يحيى: كذب”.
إلا أن الخطيب اعتذر عن ابن سعد، وصرف نقد ابن معين عنه ووجهه إلى الواقدي، بقوله: “ومحمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى في كثير من رواياته، ولعل مصعبًا الزبيري ذكر ليحيى عنه حديث من المناكير التي يرويها الواقدي فنسبه إلى الكذب”.
وأما ما ذكره ابن طيفور من أن المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة من الفقهاء -بينهم محمد بن سعد كاتب الواقدي- فأشخصوا إليه، فسألهم وامتحنهم عن خلق القرآن فأجابوا جميعًا: إن القرآن مخلوق. فهذه الرواية إن صحت تدل أولًا على ما كان يتمتع به ابن سعد من شهرة وتقدم في بغداد، ولكنها قد تشير ثانيًا إلى شيء من عدم الرضي عنه بين فئة من أهل الحديث. ومن ذلك فقد نرى بينه وبين أحمد بن حنبل الذي وقف أصلب موقف في فتنة خلق القرآن علاقة قوية إذ كان أحمد يوجه في كل جمعة برجل إلى ابن سعد يأخذ منه جزأين من حديث الواقدي فينظر فيهما إلى الجمعة الأخرى ثم يردهما ويأخذ غيرهما [6].
مؤلفات ابن سعد
1- الطبقات الكبرى: ألف لنا ابن سعد واحدًا من أهم وأشهر المصادر الإسلامية، في السير والمغازي، وأخبار الصحابة والتابعين وطبقاتهم- وهو كتاب الطبقات الكبرى، والذي وصلنا سالمًا وهو في ثمانية أجزاء.
2- الطبقات الصغرى: يقول فؤاد سزكين أثناء وصفه لهذا الكتاب إنه يشتمل على نفس التراجم الموجودة في الكبير، غير أنها مختصرة، ويبدو أنه ألفه قبل الكبير. وهو مخطوط في متحف الآثار باستنبول، تحت رقم 435، مكون من (139 ورقة. تاريخه في القرن السادس الهجري).
3- الزخرف القصري في ترجمة أبي الحسن البصري: أي الحسين بن يسار.
4- القصيدة الحلوانية في افتخار القحطنيين على العدنانيين: تنسب له، وتوجد في مخطوط بالقاهرة، ثاني 3/2838. وهناك شرح لهذه القصيدة كتبه غازي بن يزيد. يوجد في دار الكتب بالقاهرة (2) 5/44 أنساب.
5- التاريخ: ذكر الذهبي والكتاني أن لابن سعد (مصنف في التاريخ)، بالإضافة إلى ما كتبه تلميذ ابن سعد وراوي كتابه الطبقات الكبرى الحسين بن فُهَم في ترجمة عقدها لشيخه ابن سعد في الطبقات الكبرى قال فيها: “كان كثير العلم كثير الحديث والرواية كثير الكتب كتب الحديث وغيره من كتب الغريب والفقه”. ونقل ذلك عنه الخطيب.
الطبقات الكبرى
وأهم هذه التصانيف، أولها (الطبقات الكبرى)، الذي نال ثناء العلماء، لشموله وحسن تصنيفه. فقال الخطيب البغدادي وغيره: “صنف كتابًا كبيرًا في طبقات الصحابة والتابعين، والخالفين إلى وقته فأجاد فيه وأحسن”.
وقال حاجي خليفة: “كتاب الطبقات أعظم ما صُنف في طبقات الرواة”. وورد في دائرة المعارف: “أهم تصانيفه الطبقات”. وهكذا حظي الكتاب بقسط وافر من ثناء العلماء حتى عُرف ابن سعد به فقال الذهبي: “صاحب الطبقات والتاريخ”. وقال أيضًا: “مصنف الطبقات الكبير، والصغير، والتاريخ”. وقال ابن حجر: “صاحب الطبقات” [7].
وكتاب الطبقات الكبرى في ثمانية أجزاء، خصص ابن سعد الجزأين: الأول والثاني منه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه والأجزاء الستة الباقية خصصها لأخبار الصحابة والتابعين حسب مواطنهم وأمصارهم، فمن في مكة المكرمة، ومن في المدينة المنورة، ومن في البصرة، ومن في الكوفة، ثم رتب علماء كل مصر، حسب شهرتهم وزمانهم.
وفاة ابن سعد
اختلفت المصادر في تأريخ وفاة ابن سعد على ثلاثة أقوال:
الأول: ما ذكره الصفدي بقوله: “توفي ببغداد يوم الأحد رابع جمادى الآخرة سنة 222هـ، على اختلاف في ذلك، وهو ابن اثنين وستين عامًا”.
الثاني: ما قاله ابن أبي حاتم: إنه (مات سنة ست 230هـ).
الثالث: ما أرخه الحسين بن فَهُم، حيث قال: “توفي ببغداد يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة 230هـ، ودفن في مقبرة باب الشام وهو ابن اثنتين وستين سنة”. كما رواه الخطيب بسنده عن ابن فَهُم أيضًا.
بالإضافة إلى أن أكثر المصادر على أنه توفي في تلك السنة أي سنة 230هـ. وهذا هو الراجح في وفاته؛ لأن تلميذه الحسين بن فَهُم هو أعرف الناس بتأريخ وفاة شيخه، لكثرة ملازمته له باعتباره أحد رواة كتاب الطبقات الكبرى [8].
[1] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 5/321. ابن خلكان: وفيات الأعيان،4/351. الزركلي: الأعلام، 7/6.
[2] تاريخ بغداد، 5/322. السمعاني: الأنساب، ص470. وفيات الأعيان، 4/352. المزي: تهذيب الكمال، 6/600. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 7/18. السيوطي: طبقات الحفاظ، ص183.
[3] إحسان عباس: مقدمة تحقيق الطبقات الكبرى، 1/ 2 – 3.
[4] تاريخ بغداد، 5/322. الذهبي: سير أعلام النبلاء، 7/215. زياد محمد منصور: مقدمة تحقيق الطبقات الكبرى، القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم، 1/ 29 – 40.
[5] طبقات ابن سعد، 7/364. تاريخ بغداد، 5/321. ابن النديم: الفهرست، ص145. ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 2/258. الذهبي: تذكرة الحفاظ، 2/425. الصفدي: الوافي بالوفيات، 3/88. اليافعي: مرآة الجنان، 2/100. الجزري: غاية النهاية في طبقات القراء، 2/142. ابن حجر: تهذيب التهذيب، 9/182. السيوطي: طبقات الحفاظ، ص183.
[6] تاريخ بغداد، 5/321. النجوم الزاهرة 2/ 219. إحسان عباس: مقدمة تحقيق الطبقات الكبرى، 1/4.
[7] طبقات ابن سعد، 7/364. وكشف الظنون، 2/1099. وهدية العارفين، 2/11. والرسالة المستطرفة للكتاني، ص138. والأعلام للزركلي، 7/6. ودائرة المعارف الإسلامية، 1/190. وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان، 3/19. والمغازي الأولى ومؤلفوها لهورفتس، ص127. ومعجم المؤلفين، 10/21. وتاريخ التراث لسزكين، 1/481. ونشأة علم التاريخ عند العرب للدوري، ص32.
[8] طبقات ابن سعد، 7/364. الوافي بالوفيات، 3/88. الجرح والتعديل، 3/2/262. تاريخ بغداد، 5/322. والكامل في التاريخ، 7/18. وفيات الأعيان، 4/352. تهذيب الكمال، 6/600. العبر للذهبي، 1/407. تذكرة الحفاظ للذهبي، 2/425. مرآة الجنان، 2/100. ابن كثير: البداية والنهاية، 10/303. ابن حجر: تقريب التهذيب، ص298. النجوم الزاهرة، 2/258. طبقات الحفاظ للسيوطي، ص183.