الوقف في الإسلام
تتنوع وجوه التكافل المُجتمعيّ بين الناس بين فعل الخير والإحسان إلى الآخر، ومُساعدة المُحتاج، وإغاثة الملهوف، وتعليم الأُميّ، وإنقاذ المُتورِّط، وتسديد الديون عن الناس، وكفالة اليتيم، ورعاية اللُّقطاء، وتثقيف الناس، وإنشاء المصانع التي تذهب أرباحها إلى الفقراء أو التي تكون مُنتجاتها مساعدةً للدّولة، إضافةً إلى وجوه الإحسان التي ظهرت في العصر الحديث والتي اتسعت لتشمل مُختلف المجالات؛ فإنشاء محطّة إعلاميّة هادفة أو صحيفة مُحترمة وجهٌ من وجوه الإحسان، وإنشاء مشفىً لمُعالجة الفقراء وجهٌ من وجوه الإحسان، وتعليم الأطفال أو إنشاء مراكز لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصّة وجهٌ من وجوه الإحسان، ورعاية المواهب وتنميتها لتُفيد المُجتمع والأمة وجهٌ من وجوه الإحسان أيضاً، وغيرها الكثير. بتنوّع وجوه الخير بين الناس تزدهر الأمم وتُغطي الإيجابيّة، لذلك لم تخلُ الأفكار الإنسانيّة أو الدينيّة من حثِّ النَّاس على التبرع والمُساعدة والإحسان إلى الغير.
من هنا ظهرت فكرة الوقف؛ فالوقف يعني إيقاف وحبس الأملاك أو الأموال أو أي شئ يملكه الإنسان لتقديم المنفعة للآخرين، فقد يملك شخصٌ مبنىً فيُوقفه، كمشفى لمعالجة المرضى الفقراء، أو قد يوقفه كمدرسة لرعاية المواهب، أو كمركز لرعاية الأيتام أو ذوي الاحتياجات الخاصة، أو دار للعبادة، وقد يوقف سريراً في مشفى، أو سيارة إسعاف، أو سيارةً لنقل المُحتاجين، أو سبيلاً للمياه، أو مصنعاً لتشغيل الفقراء ورعايتهم وتسديد التزاماتهم.
إقرأ أيضا:كيف عالج الإسلام الفقرمعنى الوقف
- الوقف في اللغة: يعني الحبسُ عن التَّصرُّف.
- الوقف في الاصطلاح: له عدة تعريفات، ومنها ما يأتي:
- عرّفه جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشافعية والحنابلة بأنّه (حبسُ مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التَصرُّف في رقبته من الواقف وغيره على مَصْرِفٍ مُباح موجود، أو بصرف رَيْعِهِ على جِهة برٍ وخير؛ تَقرُّباً لله سبحانه وتعالى، وعليه يخرج المال عن ملك الواقف ويصير حبيساً على حكم ملك الله تعالى، ويمتنع على الواقف تصرّفه فيه، ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف).
- أما المالكيّة فقد عرَّفوا الوقف بأنّه (جعل المالك منفعةً مملوكةً ولو كان مملوكاً بأجرةٍ أو جعل غِلَّتِه كدراهم لمُستحقٍ بصيغةٍ مدّة ما يراه المُحبِس).
أركان الوقف
للوقـف أركـان لا يتمّ إلا بها، إلا أنّ العلماء اختلفوا في هذه الأركـان ، ومذهـب الجمهـور أنّ للوقـف أربعـة أركـان كالآتي:
- الواقف: وهو الشخص المُكلَّف الرّاشد الحرّ الذي يقوم بإنشاء الوقف لجهةٍ مخصوصة أو غير مخصوصة.
- الموقوف: وهو الشيء الذي يقوم الواقف بإيقافه، كقطعة أرض، أو بيت، أو واسطة نقل، أو غير ذلك.
- الموقوف عليه: وهو ما يُخصَّص الوقف أو ريعه الناتج عنه عليه، سواء كان ذلك الموقوف عليه مُعيَّناً كشخص أو مجموعة أشخاص، أو أن يكون غير مُعيّنٍ كجهة من رسميّة أو غير رسميّة.
- الصّيغة: وهو الكلام الذي يصدر من الواقف عند تلفُّظه بإيقاف ما يُريد إيقافه على شيءٍ أو لأحدٍ ما، وقد اتّفق الفقهاء على أنَّ المُعتَبر في الصيغة في عقد الوقف فقط هو إيجاب الواقف؛ أي أن يصدر الكلام من الواقف، ولا يُشتَرط لصحّة الوقف أن يقبل الموقوف عليه بذلك الوقف، فالوقف هو عقدٌ يتمُّ من جهةٍ واحدة فقط لكونه من عقود التبرعات.
شروط الوقف
يُشترط لصحة الوقف مجموعة من الشروط التي ترتبط مع أركان الوقف السابقة ارتباطاً وثيقاً، حيث تتعلّق بها بشكلٍ مباشر، ومن أهمِّ شروط الوقف ما يأتي:
إقرأ أيضا:ما هو بيع السلمالشروط المُعتبرة في الواقف
يُشترط في الواقف حتى يصحَّ منه ويصدق عليه إجراء وإبرام عقد الوقف ما يأتي:
- أن يكون أهلاً للتبرعات، ويعني ذلك أن يكون مُكلَّفاً قادراً على التصرُّف بمالك وملكه دون وصايةٍ أو واسطةٍ من أحد.
- أن يكون ذا أهليّةٍ كاملةٍ لإتمام وإجراء عقد الوقف وإتمامه، فينبغي أن يكون حُرّاً يملك نفسه، ولا يجوز لعبدٍ مملوكٍ أن يُجري عقد وقفٍ لأنه لا يملك نفسه، وبالتّالي لا يملك أمر التصرُّف بأمواله.
- أن يكون بالغاً رشيداً غير مجنونٍ أو سفيه؛ حيث إنّ مثل هؤلاء ليسوا من أهل التصرّف، وإن قاموا بأي فعلٍ ماديّ فإن أفعالهم تلك لا تكون صالحةً لعدم صلاحيتهم لإجراء العقود الماليّة، وسبب ذلك فإنّ عقد الوقـف تـبرعٌ محض، وفيه يتمُّ إسقاط ملك الشخص بلا عوض، فلا يصحُّ من مثل هؤلاء حمايةً لهم من الغُبن والخديعة، وحفظاً لحقوقهم وأموالهم من أيدي أصحاب القلوب المريضة والنّفوس الدنيئة.
الشروط المعتبرة في الموقوف عليه
الموقوف عليه لا يخرج عن أمرين؛ فإمّا أن يكون شخصاً مُعيَّناً، كأن يكون شخصاً أو مجموعةً من الناس، أو أن يكون جهةً مُعيَّنةً، ولكل حالة شروط خاصّة:
- إن كـان الموقوف عليه مُعيَّناً معلوماً فقد اشترط العلماء لصحّة الوقف أن يكون من المُمكن تمليكهم، فلا يمكن مثلاً تمليك المجنون أو الميت، واشترط بعض الفقهاء كذلك ألا يكون الوقف على معصية، كما لو وقف شخصٌ شيئاً على نائحة أو مُغنّية.
- بينما اشترط علماء المالكيّة والشافعيّة أن يتمَّ قبول الوقف من الموقوف عليه مع صحة الوقف إن لم يقبل له، إلا أن ذلك الأمر يُعتَبر شرطاً في اختصاصه، فلو أوقف له شيءٌ ولم يقبل به فإنّه لا يعود له مُطلقاً، فينتقل الموقوف للمصرف الذي بعده إن عُيَّن مصرفاً، فإن لم يوجد مصرفٌ للوقف فيعود الموقوف للفقراء والمساكـين.
- يُشترط لصحّة الوقف كذلك أن يكون في برٍّ وطاعة، فإن أوقف أحدٌ شيئاً وكان في ذلك معصيةٌ لله لم يَجُز وقفه؛ لأن الوقف من عقود التبرّعات، ولا يُقبَل من التبرعات إلا ما كان طاهراً في أصله ومَوئِله، بينما يرى المالكيّة أنه يُشترط في الوقف ألا يكون على معصية محضة.
- أما إذا كان الموقوف عليه جهةً مُعيَّنةً كالمساجد والمدارس والمستشفيات وغير ذلك؛ فيشترط في هذه الحالة أيضاً أن تكون الجهة الموقوف عليها ذلك المُعين جهة برٍّ وطاعة، فلا يجوز الوقف على من يكون في طبعه وطبيعته مُخالفةٌ لحال الموقوف، كأن يوقف مسجدٌ على قُطّاع الطرق أو على جماعةٍ من أهل البدع والمُنكرات، أو على المُطربين؛ وذلك لما فيه من إعانتهم على الإثم والعدوان، يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)