الجزاء والعقاب في الإسلام
يُجازى الإنسان عن كلّ فعلٍ يصدر عنه؛ فإن فعل خيراً فإنّه يُجزى خيراً، وإن فعل شرّاً فإنّه يُجزى بمثله، يقول الله تبارك وتعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)،[١] والإنسان مسؤول عن أفعاله كلّها؛ فإن عمل سيِِّئاً فله عقوبة، والعقوبة درجات وليست جميعها في درجةٍ واحدةٍ من حيث السّوء، ونتيجة الفعل، وكما أنّ الأفعال السيِّئة تختلف في الدّرجة؛ فإنّ العقوبة تتدرّج وتختلف بين تصرُّفٍ سيِّئٍ وآخر؛ فأعظم الذنوب هو الشِّرك بالله؛ فالشّرك والكفر يُحبطان العمل، كما أنّ الكبائر والمعاصي تُحبِط الحسناتِ بمقدار المعصية والفعل السّيِّئ الذي صدر عن صاحبه، وتبعاً لذلك تختلف العقوبة ودرجتها بناءً على الاختلاف في درجة سوء الفعل، وعليه فإنّ الاستماع للأغاني مثله مثل باقي المعاصي، له عقوبة وجزاء، فما عقوبة من يسمع الأغاني، وما حُكم سماعها؟[٢]
تعريف الأغاني
الغناء من الصّوت: هو ما طُرِب به من الصّوت، قال حميد بن ثور:
- عجبْتُ لها أنَّى يكون غناؤها
-
-
- فصيحاً، ولم تفغَرْ بمنطِقِها فما
-
وقد غنَّى بالشِّعر، وتغنَّى به، فقال:
إقرأ أيضا:كيف أجعل قلبي يخشع- تغنَّ بالشِّعر، إمّا كُنْتَ قائِله،
-
-
- إنّ الغناءَ بهذا الشِّعر مضمارُ
-
وقد أراد ابن ثورٍ في قولة: (إنّ التغنّي)، فوضع الاسم موضع المصدر، وغنّاه بالشّعر وغنّاه إيّاه، ويُقال: غنّى فلانٌ يُغنّي أُغنيةً، وتغنّى بأُغنيةٍ حسَنَةٍ، وجمعُها الأغاني.[٣]
عِقاب سماع الأغاني
ورد في عِقاب من يسمع الأغاني أنّ الله يخسِف بهم الأرض، ومِن عقوبتهم أيضاً أنّ الله يمسخهم إلى قِرَدة وخنازير؛[٤] فقد رُوِي عن رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام أنّه قال: (لَيَشْرَبَنَّ ناسٌ مِنْ أُمَّتي الخمر يُسَمُّونَها بِغَيْرِ اسمِها، يُعْزَفُ عَلَى رُؤَوسِهِمْ بِالمعَازِفِ والقَيْنَاتِ، يَخْسِفُ اللهُ بهم الأَرْضَ، ويَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ والخنَازِيرَ).[٥]
ومِن عقاب سماع الأغاني العذاب المهين في الآخرة، والدّليل عليه ما جاء في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)،[٦] ولكن لم ترد في القرآن طبيعة هذا العذاب في الآخرة، ولم تُحدَّد ماهيّته وكيفيّته، ولكن يكفي زجراً لكلّ إنسان يسمع الأغاني أنّه يُغضِب الله ويسخطه؛ وبهذا فإنّه يُعرِّض نفسه للعذاب المهين من الله سبحانه وتعالى.[٧]
إقرأ أيضا:ما هي شجرة الخلدوهناك من يستشهِد ويستدلّ ويستند إلى رواية تُروى على أنّها حديث عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-ونصّه: (مَنْ جلسَ إلى قينةٍ، صُبَّ في أُذُنِه الآنُكُ يومَ القيامةِ)،[٨] والآنك هو الرّصاص المُذاب، ومن الجدير ذِكره أنّ مثل هذا النصّ لا يصلح أن يكون مُستنداً لحُكمٍ شرعيٍّ، وقد ورد هذا النّص في مجموعة من الكتب في معرض الاستشهاد عن عقاب سماع الأغاني، وقد قال الإمام أحمد عن هذا النصّ في العِلل المُتناهية: إنّه باطلٌ، وحكم عليه ابن العربيّ في كتابه أحكام القرآن بأنّه لا يصحّ، وقال عنه ابن حزم في كتابه المُحلّى بالآثار: إنّه موضوع، وأورده الشّيخ الألبانيّ في كتابَيْه: السّلسلة الضعيفة، وضعيف الجامع، وقال عنه: باطلٌ موضوع، وقال الإمام الذهبيّ في كتابه تلخيص العِلل المُتناهية: إنّه من وضع عليّ بن المُنكدر، وبما أنّ هذا النصّ قد اجتمع المُحدّثون على أنّه موضوعٌ ومكذوبٌ عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وليس حديثاً عنه عليه الصّلاة والسلّام، فهو لا يصحّ مُستنَداً للحديث عن مسألةٍ عقَديّةٍ تتعلّق بعقوبةٍ ربانيّةٍ يوم القيامة، ويسقط الاستشهاد بهذا النصّ على عقوبة سماع الأغاني، بل ويأثم كلّ من يستشهد بهذا النصّ المكذوب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.[٩]
حُكم الأغاني
إنّ الأغاني التي تُستخدَم معها آلات العزف الموسيقيّ حرامٌ مُطلقاً، ولا يحلّ سماعها أبداً، وقد رُوِي عن الصحابيّ الجليل عبد الله بن مسعود أنّه أقسم ثلاثاً أنّ آية لقمان الواردة في قوله سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)،[٦] فقد نزلت في المعازف، وأنّ لهو الحديث الذي يُضلّ عن سبيل الله هو المعازف. وأمّا الأغاني دون مُصاحبة آلات العزف، ولكنّ في معناها سوءاً أو كلاماً سيِّئاً، مثل: الغزَل، أو الهِجاء، أو نحو ذلك؛ فهو غناءٌ مذمومٌ كذلك على قَدر ما فيه من سوء وكلام لا يستقيم مع أحكام الشّريعة الإسلاميّة.[١٠]
إقرأ أيضا:كيف أبتعد عن الأغانيوإذا كان الغناء دون مرافقة المعازف والآلات الموسيقيّة، ولم تكن كلماته بذيئةً أو سيّئةً بل كانت ثناءً على الإسلام والمسلمين، وكانت كلماته تدعو إلى الحماسة، والبطولة، ومكارم الأخلاق، ونحو ذلك؛ فالغناء الذي صفته هكذا يُعدّ من النّشيد الذي هو سُنّة، وقد استعمله النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- والصّحابة الكِرام أثناء حفر الخندق وبناء المسجد، وأنشدوا في الغزوات، وكلّ ذلك بمشاركة الرّسول وتحت سمْعه وبصره، ولو لم يكن جائِزاً لما فعله النبيّ الكريم -عليه الصّلاة والسّلام- ولما أقرّه، ومثل هذا النّشيد لا حرجَ في سماعه.[١٠]
وقد جاء عن عامر بن سعد أنّه قال:(دَخَلْتُ على قُرَظَةَ بنِ كَعْبٍ، وأبي مسعودٍ الأنصارِيِّ في عُرْسٍ؛ وإذا جَوَارٍ يُغَنِّينَ، فقلتُ: أَيْ صاحِبَيْ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأهلَ بَدْرٍ! يُفْعَلُ هذا عندَكم؟! فقالا: اجلس -إن شِئْتَ- فاسْمَعْ مَعَنا، وإن شِئْتَ فاذْهَبْ؛ فإنه قد رُخِّصَ لنا في اللَّهْوِ عند العُرْسِ).[١١]
أنواع الأغاني وحُكمها
عند استقراء حُكم الغناء في الشّريعة الإسلاميّة فلا بُدّ قبل الخوض في حُكم الغناء من التّمييز بين الغناء وأنواعه ابتداءً؛ فالغناء أنواع، ولكلّ نوعٍ حُكم، فيما يأتي بيان ذلك:
الغناء الذي تُصاحبه آلة عَزف ولَهوٍ
يُعدّ الغناء الذي تُصاحبه آلة عزفٍ ولهوٍ غناءً مُحرَّماً؛ فيحرُم سماعه من الرّجال والنّساء بالإجماع، وقد نَقل الإجماع على تحريم سماع آلات العزف -باستثناء الدّف- جماعة من العلماء، مثل: ابن الصّلاح، والإمام القرطبيّ، وابن القيّم، وابن حجر الهيتميّ، وابن رجب الحنبليّ، وأبي الطيّب الطبريّ، حيث قال الإمام القرطبيّ: (أمّا المزامير والأوتار والكوبة جميعها آلات موسيقيّة، فلا يُختلَف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممّن يعتبر قوله من السّلف وأئمّة الخلف مَن يُبيح ذلك، وكيف لا يحرُم وهو شِعار أهل الخُمور والفُسق، ومُهيّج الشّهوات والفَساد والمُجون! وما كان كذلك لم يُشَكَّ في تحريمه، ولا تفسيقِ فاعله وتأثيمه).[١٢][١٣]