صحة حديث رضاع الكبير
أخرج البخاري ومسلم هذا الحديث في صحيحهما عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ أنّها قالت: (إنَّ أبَا حُذَيْفَةَ بنَ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عبدِ شَمْسٍ -وكانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تَبَنَّى سَالِمًا، وأَنْكَحَهُ بنْتَ أخِيهِ هِنْدَ بنْتَ الوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وهو مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الأنْصَارِ، كما تَبَنَّى النَّبيُّ زَيْدًا، وكانَ مَن تَبَنَّى رَجُلًا في الجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إلَيْهِ ووَرِثَ مِن مِيرَاثِهِ، حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ “ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ” إلى قَوْلِهِ “وَمَوَالِيكُمْ”، فَرُدُّوا إلى آبَائِهِمْ، فمَن لَمْ يُعْلَمْ له أبٌ، كانَ مَوْلًى وأَخًا في الدِّينِ).
وتكمل عائشة -رضي الله عنها- وتقول: (فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بنْتُ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو القُرَشِيِّ ثُمَّ العَامِرِيِّ -وهي امْرَأَةُ أبِي حُذَيْفَةَ بنِ عُتْبَةَ- النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا ولَدًا، وقدْ أنْزَلَ اللَّهُ فيه ما قدْ عَلِمْتَ..).
وفي رواية مسلم: (إنَّ سَالِمًا قدْ بَلَغَ ما يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ ما عَقَلُوا، وإنَّه يَدْخُلُ عَلَيْنَا؛ وإنِّي أَظُنُّ أنَّ في نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِن ذلكَ شيئًا، فَقالَ لَهَا النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عليه، وَيَذْهَبِ الذي في نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَرَجَعَتْ فَقالَتْ: إنِّي قدْ أَرْضَعْتُهُ؛ فَذَهَبَ الذي في نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ). وبهذا يظهر صحة وثبوت حديث رضاع الكبير؛ فلا يصحّ إنكاره بحال من الأحوال، وفيما يأتي توضيح بعض المسائل المتعلقة فيه.
إقرأ أيضا:عدد أحاديث ابن خزيمةتنبيهات حول حديث رضاع الكبير
لقد أثار حديث رضاع الكبير العديد من المسائل التي أَشكل على الناس فهمها وتقديرها؛ وفيما يأتي تنبيه لأهم الأمور التي تتعلق بذلك:
طريقة الرضاع
ذهب جمعٌ من العلماء إلى القول بأنّ سالم مولى أبي حذيفة لم يكن رضاعه من سهلة بنت سهيل مباشرةً بالتقاء البشرتين، بل كان ذلك عن طريق قارورة أو كأس وضعت فيها الحليب ليشربه سالم مولاهم؛ وذلك لما يأتي:[٣]
- لأنّ ثدي المرأة من العورة التي يُحرم عليها إظهارها لغير محارمها، والتقام الثديّ بذلك أشدّ من إظهاره.
- إنّ التقام الثدي من الوسائل المحرّمة التي حرّمتها الشريعة الإسلامية؛ وذلك بعدد من النصوص الناهية عن تلامس الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية، أمّا الرضاع من الكأس والوعاء فهو من الوسائل المُرسلة التي لم يأتِ الشرع بتحريمها؛ والتي تُستخدم عند فقد الوسائل المباحة.
- إنّ أساس تحريم سهلة على مولاهم سالم هو حليبها؛ فإذا وصل اللبن إلى بطنه بالقدر المطلوب صار مُحرّماً، أمّا قبل ذلك فلا، لذا لا يُتصوّر أن يكون ذلك قد تمّ بغير وعاء أو كأس ونحوه من الوسائل.
خصوصية رضاع الكبير
ذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنّ حادثة رضاع الكبير كانت خاصة بسالم مولى أبي حذيفة تحديداً؛ إذ كان قبل تحريم التبنّي يتعاملون معه كابن لهم، وكان يرى من سهلة ما يراه الولد من أمه، ولمّا حرّم الله -تعالى- التبنّي شقّ ذلك على أبي حذيفة وزوجته سهلة -رضي الله عنهما-، فلمّا جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشتكون من ذلك رخّص لهم رضاعة سالم مولاهم من سهلة -بالطريقة التي أشرنا لها-؛ ليَحرم عليها.
إقرأ أيضا:كم عدد الأحاديث المتواترة لفظاًومما يؤكد ذلك قول أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهنّ-: (وَاللَّهِ ما نَرَى هذا إلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَما هو بدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بهذِه الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا).
إفتاء أم المؤمنين عائشة برضاع الكبير
صحّ في السنة النبويّة أنّ عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- كانت تفتي بجواز رضاع الكبير؛ إذ لم تره خاصاً بسالم مولى أبي حذيفة فقط؛ ومما يدل على ذلك ما صحّ عن أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (كانت عائشةُ تأمرُ بَناتِ أخواتِها وبَناتِ إخوتِها أن يُرضِعنَ من أحبَّتْ عائشةُ أن يَراها ويدخُلَ علَيها، وإن كانَ كبيرًا خمسَ رضعاتٍ، ثمَّ يدخلُ عليها)
ثمّ نُسخت فتواها هذه بحديث ثابت صحيح، نقلته أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها- بنفسها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد صحّ عنها -رضي الله عنها- أنّها قالت: (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وعِندِي رَجُلٌ، قالَ: يا عَائِشَةُ، مَن هذا؟ قُلتُ: أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، قالَ: يا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَن إخْوَانُكُنَّ؛ فإنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ).
ويُردّ على الاتهامات المُوجّهة لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لإفتائها برضاع الكبير قبل النسخ بما يأتي:
- إنّ عائشة -رضي الله عنها- تعلمت على يد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وترعرت في بيت النبوة؛ ونقلت الكثير من الأحاديث النبويّة، وأثْرَت العديد من المسائل التي شهدتها وحضرتها.
- إنّ ذلك من اجتهادها -رضي الله عنها- الذي تُؤجر عليه، وإن خالف الصواب برأي العديد من أهل العلم؛ فقد رأت عموم الإباحة لا خصوص السبب.
- إنّ عائشة -رضي الله عنها- لم تفتِ بذلك حتى تُدخل عليها من تشاء وقتما تشاء؛ حيث كانت ملتزمةً بحجابها وعفتها أثناء دخول الصحابة عليها وسؤالها، والتعلم على يديها.
- إنّ عائشة -رضي الله عنها- أبت أن تُدخل عليها عمّها من الرضاعة؛ فلمّا حدّثت النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك أخبرها بجواز دخوله عليها؛ لأنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
- إنّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تتغطى بثيابها عند دخول حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لوجود قبر عمر الفاروق -رضي الله عنه- فيه؛ مما يدلّ على حفاظها التام على شرع الله -تعالى- في حجابها والتزامها.
أثر رضاع الكبير
تعددت آراء الفقهاء في أثر رضاع الكبير والأحكام التي تتعلق به؛ ويمكن تلخيصها على النحو الآتي:
إقرأ أيضا:شروط الإمام مسلم لقبول الحديث- رضاع الكبير لا أثر له، ولا تثبت به الحُرمة؛ وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة، وجمع من الصحابة الكرام، استدلالاً بقوله -تعالى-: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).
- رضاع الكبير تثبت به الحُرمة؛ وهو قول عائشة -رضي الله عنها- قبل النسخ، وابن حزم، وبعض التابعين.
- أنّ الرضاع في الصغر هو المُعتبر، ورضاع الكبير تثبت به الحُرمة إذا دعت إليه حاجة مُلحة؛ وبهذا قال ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما.