التحلُّل من الإحرام
شرع الله -سُبحانه وتعالى- لعباده المُسلمين جُملةً من العبادات، وذلك بعد أن افترض عليهم فرائض يجب عليهم أداؤها، فجعل تلك العبادات باباً يتقرّبون به إلى خالقهم، ومن بين تلك العبادات أداء العُمرة، وذلك بزيارة الكعبة المُشرَّفة، وفعل مجموعةٍ من المناسك وفقَ ما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لنيل الأجر والثّواب من الله سبحانه وتعالى، وتحصيل فضل العُمرة وأجرها.
ومناسك العُمرة وأركانها وفرائضها عديدةٌ؛ منها الطّواف حول الكعبة، والسّعي بين الصّفا والمروة، وغير ذلك، وقد اختلف الفقهاء في توصيف تلك الفرائض والأركان؛ فجعل بعضهم أركان العُمرة واجباتٍ، وجعل آخرون واجباتِ العُمرة مستحبّاتٍ، ومن بين مناسك العُمرة التي اختلف الفقهاء في توصيفها ما يُعرَف بحلق الشّعر أو تقصيره للمعتمر بعد إتمام مناسك العُمرة بقصّد التَّحلُّل من الإحرام، فما هي مكانة قصّ الشّعر أو حلقه من مناسك العُمرة، وما الحكمة منه، وما هو حُكم ذلك في الإسلام؟
معنى العُمرة
العمرة لُغةً
العُمرة في اللغة تعني الزّيارة، والمعتمر يُقصَد به الزّائر الذي يزور مكاناً ويقصده، أو هو الذي يَقصد فعل شيءٍ مُعيَّن، والعُمرة هي نوعٌ من المناسك التي يقوم به المُسلمون وفق كيفيّةٍ مخصوصةٍ.[١]
العمرة اصطلاحاً
العُمرة اصطلاحاً تعني التَقرُّب من الله -عزَّ وجلَّ- عن طريق زيارة بيته الحرام، وفقَ مناسك وخطواتٍ مخصوصةٍ، أوّلها من حيث التّرتيب والبدء: الإحرام، فالطّواف حول الكعبة، ثمّ الانتقال إلى السّعي بين الصّفا والمروة، وآخرها حلق شعر الرّأس للمُعتمِر أو تَقصيره.[٢]
إقرأ أيضا:شروط العمرة وأركانهاوتعني العُمرة في الاصطلاح كذلك أن يزور المُسلم الكعبة المُشرَّفة؛ بهدف عبادة الله والتَّقرب إليه فيها وفق هَيئةٍ مخصوصةٍ، وألفاظ مخصوصةٍ، وأعمالٍ ومناسك مخصوصة، تبدأ بالإحرام، ثمّ الطَّواف في بيت الله الحرام، وبعده الانتقال إلى السَّعي بين الصفا والمروة، والانتهاء بالتَّحلل من الإحرام عن طريق حلق شعر الرّأس أو تقصيره.[٣]
الحِكمة من قصّ الشّعر بعد العُمرة
من الأمور الواجبة على المعتمر فورَ الانتهاء من مناسك العُمرة حلقُ شعر رأسه كلّه، أو أخذ شيءٍ منه، وذلك في حقّ الرّجال دون النّساء، أما النّساء فيجب عليهنّ أخذ شيءٍ يسيرٍ من مُقدّمة شعر الرّأس حتّى تكون قد تحلّلت من إحرامها، أمّا الحكمة من حلق شعر رأس المعتمر أو تقصيره فهي تعبُّديّةٌ بحتة؛ حيث إنّ المُسلم إذا أُمِر بأمرٍ من الأمور فإنّما يجب عليه السّمع والطّاعة، خاصّةً إن كان مصدر هذا الأمر إلهيّاً مُطلقاً، ولا ينبغي عليه السّعي لإيجاد الغاية من العبادات.[٤]
والتّقصير أيضاً من مناسك الحجّ والعُمرة التي لا يصحّان إلّا بها، وقد ثبت الأمر بهما من الله سبحانه وتعالى، وفي فعل الطّاعات والمأمورات -ومن ضمنها الحلق والتّقصير- اختبارٌ للعبد من ربّه؛ لكي يعلم مدى استجابته لأوامره وخضوعه لأحكامه، فالواجب على المُسلم أوّلاً أن يُبادِر إلى تنفيذ أوامر الله -سُبحانه وتعالى- وأوامر رسوله المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم، والإذعان لها حتّى لو لم يعلم الحِكمة منها، فإن وجد فيها حكمةً فبِها ونعُمت، وإن لم يجد فلا ينبغي له الانشغال في إيجادها والبحث عنها،[٤] قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).[٥]
إقرأ أيضا:كيفية رمي الجمرات في الحجحُكم الحلق والتّقصير
اختَلف أهل العلم في حُكم الحلق أو التّقصير في العُمرة والحجّ؛ فمنهم من يرى ركنيّته، وأنّ الحجّ والعُمرة لا يُقبَلان إلّا به؛ للتحلُّل من الإحرام، ومنهم مَن يرى وجوبه على الحاجّ والمُعتمر، وأنّه يجوز التحلُّل بفعل أيّ شيءٍ من محظورات الإحرام للتحلُّل منه، وبيان آراء العلماء في هذه المسألة فيما يأتي:[٦][٧]
- يرى الشافعيّة أنّ الحلق أو التّقصير للرجل والمرأة ركنٌ من أركان العُمرة والحجّ، وأنّ من لم يأتِ به فلم يحلق شعره أو يأخذ منه يكون حجّه باطلاً، ولا يُجزئ عنه هديٌ ولا إراقة دمٍ.
- يرى جمهور الفُقهاء من الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وقولٌ عند الشافعيّة أنّ الحلق أو التّقصير إنّما هو واجبٌ من واجبات الحجّ، فلا يُعدّ الحلق أو التّقصير من أركان الحج والعُمرة التي يبطلان إن تركها الحاجّ أو المُعتمر؛ بل إن كان التَّحلُّل من الإحرام عن طريق الحلق أو التّقصير جاز ذلك، وإن كان بطرقةٍ أخرى جاز ذلك، ولكن الحلق أو التّقصير أَوْلى وأفضل، والذي يترك الحلق أو التّقصير للتحلُّل من الإحرام تلزمه إراقة دمٍ، وفي هذه النقطة كذلك خلافٌ بين العلماء، فقد اعتبره بعضهم نُسكاً من مناسك الحج إلى كونه واجباً من واجباته، فيكون الأولى الإتيان به لا تركه حتّى إن كان من الواجبات، وبيان ذلك فيما يأتي:[٨]
- ذهب أكثر أهل العلم من الْحَنَفِيَّة، وَالْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة فِي الأصوب عندهم، وَالْحَنَابِلَةُ في الرّاجح عندهم إلى كون الحلق أو التّقصير نُسكاً من مناسك الحجّ؛ فيكون الأوْلى الإتيان به، حتّى إن اعتبروه واجباً، فلا يحصل التحلُّل من الإحرام إلا بالتّقصير لا سِواه.
- يرى بعض أهل العلم أنّ الحلق أو التّقصير ليس نُسكاً من مناسك الحجّ والعُمرة، فيجوز أن يحصل التحلُّل بغيره، وهو قولٌ يُخالف الرّاجح عند الشافعيّة، وأحد أقوال الحنابلة، ونقل القول به القاضي عياض عن عطاء بن أبي رباح، وأبو ثور، وأبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، فلا شيء عند أصحاب هذا القول على من يترك التحلُّل من الإحرام بالحلق أو التّقصير، إنّما يصحّ تحلُّله ويُقبَل بفعل أيّ شيءٍ من محظورات الإحرام.
-
- ولا تُؤمَرُ النّساء بِالْحَلْقِ إطلاقاً، بَل يجب وينبغي عليهنّ التّقصير؛ لِمَا رُوي عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَال: (لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ)،[٩] كما رَوَى عليّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَهَا).[١٠]
وقت الحلق للحاجّ والمُعتمر
وقت الحلق للحاجّ والمُعتمر يكون عند انتهاء المناسك مُباشرةً، كما قال أهل العلم جميعهم، ويختلف في ذلك الحاجّ المفرد والقارِن عن الحاجّ تمتُّعاً؛ حيث يجب على المُتمتّع بالحجّ أن يأتي بالحلق أو التّقصير مرّتَين، فيأتي المُتمتِّع بالحجّ بالحلق أو التّقصير بعد انتهاء مناسك العُمرة؛ ليتحلّل به من إحرامه للعُمرة، ثمّ إذا شرع بمناسك الحجّ وأدّاها يأتي بالحلق أو التّقصير في يوم النّحر أو بعده، أمّا المفرد والقارن فلا يُطلَب منهما الحلق أو التّقصير إلا في يوم النّحر أو بعده، والمُحرَم في العُمرة كذلك يأتي بالحلق أو التّقصير مرّةً واحدةً فقط هي عند انتهاء مناسك العُمرة،[٨] هذا فيما يخصُّ أوّل وقت الحلق؛ أمّا آخر وقت الحلق فقد اختلف فيه الفُقهاء على التّفصيل الآتي:[١١]
إقرأ أيضا:صيام عشرة من ذي الحجة- ذهب جمهور العلماء إلى جواز تأخير الحلق للحاجّ عن أيّام التشريق، فلا حرجَ عندهم في تأخير الحلق أو التّقصير إلى ما بعد الإتيان بطواف الإفاضة، كما يجوز عندهم كذلك الحلق في أيّ مكان؛ فالمُراد من الحلق التحلُّل من الإحرام وذلك حاصلٌ في أيّ مكانٍ على وجه الأرض، قال النوويّ: (لو أخَّر الحلق إلى بعد أيّام التّشريق حلق ولا دمَ عليه، سواء طال زمنه أم لا، وسواء رجع إلى بلده أم لا، هذا مذهبنا وبه قال عطاء، وأبو ثور، وأبو يوسف، وأحمد، وابن المُنذر، وغيرهم).
- ذهب الإمام أبو حنيفة إلى القول بأنّ الحلق أو التّقصير لا يصِحّان إلا في أيّام التشريق من حيث الوقت، ومن حيث المكان لا يصِحّان إلا في الحرم المكيّ، وأنّ من خالف ذلك تجب عليه إراقة دمٍ، قال الكاساني: (لو أخّر الحلق عن أيّام النّحر أو حلق خارج الحرم، يجب عليه الدّم في قول أبي حنيفة، وعن أبي يوسف لا دمَ عليه فيهما جميعاً، وعند محمّد يجب عليه الدّم في المكان ولا يجب في الزّمان، وعند زفر يجب في الزّمان ولا يجب في المكان)