اشتد إيذاء كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حتى بلغ الجهد والبلاء منهم كل مَبْلغ، ثم أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، قال السعدي: “أي: {و} اذكر أيها الرسول، ما منَّ الله به عليك، {إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه، وإما أن يقتلوه فيستريحوا – بزعمهم – من شر، وإما أن يخرجوه ويُجْلوه من ديارهم، فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأياً رآه”.
ويحدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن موقف من هذه المواقف التي تآمر واتفق فيها المشركون على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:
(إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف (أصنام كانت قريش تعبدها)، لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لوْ قدْ رأوْك، لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنية أريني وضوءاً، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعُقِرُوا (لم يتحركوا خوفا) في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت (قبحت) الوجوه، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة، إلا قُتِل يوم بدر كافرا) رواه أحمد وصححه الألباني.
إقرأ أيضا:وقفة مع وفاة أبي طالبوفي هذا الموقف ظهر خلق من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وهو الشجاعة، ودليل من دلائل نبوته وهو حفظ الله عز وجل له من القتل.
شجاعة نبوية:
علم النبي صلى الله عليه وسلم من ابنته فاطمة رضي الله عنها عن تآمر المشركين عليه، وعزمهم على قتله, حيث قالت له: (هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لوْ قدْ رأوْك، لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك)، ومع ذلك خرج صلوات الله وسلامه عليه من بيته منفرداً ودخل عليهم مجتمعين, فقد كان صلوات الله وسلامه عليه من الشجاعة والقوة بالمكان الذي لا يُجهل، قال علي رضي الله عنه واصفاً شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّا كُنَّا إذا حَمِيَ أَوِ اشْتَدَّ الْبَأْسُ (القتال)، وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ (بياض العين)، اتقينا (احتمينا) برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسا) رواه أحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عُرْي (مجرد من السرج)، وفي عنقه السيف، وهو يقول:لم تراعوا، لم تراعوا (لا تخافوا ولا تفزعوا)) رواه البخاري.
وفي يوم حنين ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الآلاف من هوازن، بعد أن تفرق عنه الناس خوفا واضطراباً من الكمين المفاجئ الذي تعرضوا له، ويصف البراء بن عازب رضي الله عنه الموقف فيقول لرجل سأله: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: (أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولَّى، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر (من لا سلاح معهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رِجْل (قطيع) من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزِّل نصرك) رواه البخاري.
وقال البراء: “كنا والله إذا احمر البأس (الحرب) نتقى به، وإن الشجاع منا للذي يحاذى به . يعنى النبي صلى الله عليه وسلم” رواه البخاري. قال ابن كثير في تفسيره بعد سياق هذا الحديث: “وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري، ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب، وهو مع هذا يركضها على وجوههم وينوه باسمه، ليعرف من لم يعرفه صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلا عليه، وعلما منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله له، ويظهر دينه على سائر الأديان”.
والله يعصمك من الناس:
من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصياته: عصمة بدنه الشريف من القتل، والأمثلة من سيرته وحياته التي تدل على ذلك كثيرة، ومنها حفظ الله له صلى الله عليه وسلم من هذه المؤامرة التي حدثنا عنها عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فقد وصف حال قريش ـ بعد أن رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وقد عزموا واتفقوا على قتله ـ فقال: (فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصرا، ولم يقم إليه منهم رجل).
لقد خُصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم ـ عن غيره من الأنبياء بعصمة بدنه الشريف من القتل، قال ابن كثير في قول الله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}: “أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك”.
وقال الماوردي: “فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فعَصَمَه منهم”.
وفي ذلك يقول المستشرق الألماني بارتلمي هيلر: “لما وعد الله رسوله بالحفظ بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، صرف النبي حراسه، والمَرْءُ لا يكذب على نفسه، فلو كان لهذا القرآن مصدر غير السماء لأبقى محمد على حراسته”.
لقد تعاهد جماعة من سادة ورؤساء قريش بخُيلائهم وكِبْرِهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأقسموا على ذلك بآلهتهم قائلين: (لو قدْ رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله)، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم أي واحدٍ منهم لتنفيذ ما اتفقوا عليه، بل قام هو صلى الله عليه وسلم بأخذ قبضة من تراب فقال: (شاهت (قبحت) الوجوه، ثم حصبهم (رماهم) بها)، متحدياً عجزهم، ومبيناً ضعفهم وهوان أمرهم، وكيف لا؟ والله عز وجل يؤيده ويقويه ويحفظه، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة، إلا قُتِل يوم بدرٍ كافراً)، فكان قتْلُهم كفَّاراً يوم بدرٍ معجزة أخرى من معجزاته صلى الله عليه وسلم.