التوبة
علم الله -تعالى- أنّ الإنسان ضعيفٌ أمام هواه وشهواته، وأنّها قد تغلبه أحياناً فيقوم بشيءٍ من الأفعال التي تغضب الله عزّ وجلّ، لذلك جعل له باباً للعودة والإنابة إليه، وطريقاً للرجوع عمّا صدر منه من عصيان، وهذا الباب هو باب التوبة التي عرّفها ابن القيم بقوله إنّها رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، وقد بشّر الله -تعالى- عباده بأنّه يتوب على من تاب، ويغفر له، ويتجاوز عنه، حيث قال الله -تعالى- في القرآن الكريم: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)،[١] والتوبة ليست خاصّة بالمسلمين الذين يقعون في المعاصي، بل إنّ التوبة متاحةً أيضاً للكافر، وذلك بأن يترك كفره ويدخل في الإسلام، فإن فعل ذلك بدّل الله له سيئاته إلى حسناتٍ، وتجاوزٍ عن ذنوبه.[٢][٣]
أمر الله -تعالى- عباده جميعاً بالتوبة، حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)،[٤] كما بشّر بحبّه للتائبين من عباده، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)،[٥] ولأهميّة التوبة فقد جاء ذكرها على لسان الأنبياء -عليهم السلام- مراراً في القرآن الكريم، فجاء مرّةً على لسان آدم عليه السلام، معترفاً بذنبه حين أكل من الشجرة التي نُهي عن الأكل منها، وجاء تارةً على لسان موسى -عليه السلام- حين قتل القبطي دون قصدٍ منه، فندم على ذلك، وتاب عنه، كما كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كثير التوبة والاستغفار لله عزّ وجلّ، بل كان يوصي صحابته بالإكثار من ذلك أيضاً.[٦][٣]
إقرأ أيضا:ما هو جزاء الصبرعدم قبول توبة فرعون
كان فرعون من أكثر الطغاة المتجبّرين في التاريخ، فقد ظلم قومه، وقتل أولادهم، واسترقّ نساءهم، وفعل فيهم الأفاعيل، ثمّ إنه لم يكتفِ بذلك، بل ادّعى الألوهيّة، وحاول إقناع قومه بأنّه إله يستحقّ العبادة من دون الله عزّ وجلّ، ومع أنّ الله -تعالى- أرسل إليه موسى -عليه السلام- يعظِه، ويذكّره، ويدعوه إلى العودة إلى الله، إلّا أنّه أبى ذلك، وأصرّ على كفره، بل آذى موسى -عليه السلام- ومن تبعه، حتى جاء أمر الله بإهلاكه كما بيّنت الآيات الكريمة في القرآن الكريم، فقد أمر الله -عزّ وجلّ- موسى -عليه السلام- أن يضرب البحر بعصاه أثناء هروبه ومن معه من فرعون، وكان فرعون يتبعهم بجيشه ليقضي عليهم، فلمّا فعل ذلك انفلق البحر، وأصبح مُمراً آمناً لموسى ومن معه بقدرة الله تعالى، ومشيئته، فساروا به إلى أن جاوزوا البحر، فلمّا تبعهم فرعون، وسار خلفهم، وتعمّق مع جيشه في البحر، أطبقه الله -تعالى- عليهم؛ ليهلكهم بذلك.[٧]
في لحظة صراع فرعون مع الموت والغرق، حاول أن يتلفّظ بالتوبة إلى الله عزّ وجلّ، والاعتراف بألوهيّته وقدرته، آملاً بذلك أن ينجيه الله من الموت المحتّم، قال الله -تعالى- في وصف ذلك المشهد: (وَجاوَزنا بِبَني إِسرائيلَ البَحرَ فَأَتبَعَهُم فِرعَونُ وَجُنودُهُ بَغيًا وَعَدوًا حَتّى إِذا أَدرَكَهُ الغَرَقُ قالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذي آمَنَت بِهِ بَنو إِسرائيلَ وَأَنا مِنَ المُسلِمينَ)،[٨] وقد ورد في الأحاديث الشريفة قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (لما أغْرَقَ اللهُ فرعونَ قال: آمنتُ أنّه لا إلهَ إلَّا الذي آمنتْ به بنو إسرائيلَ، قال جبريلُ: يا محمدُ، فلو رأيْتَنِي وأنا آخُذُ من حالِ البحرِ فأدُسُّه في فيه، مخافَةَ أن تُدْرِكَه الرحمَةُ)،[٩] فقد حاول جبريل -عليه السلام- أن يؤخّر توبة فرعون إلى الوقت الذي لا تُقبل فيه التوبة، وهذا ما حصل فعلاً، فقد جاءت توبة فرعون متأخّرة للغاية، فلم يقبلها الله عزّ وجلّ، كما ورد في الآية الكريمة: (آلآنَ وَقَد عَصَيتَ قَبلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدينَ)،[١٠] ويعود السبب في عدم قبول توبة فرعون أنّها لم تحقّق شرطاً من شروط التوبة، بمجيئها في زمن الإمكان، وليس في وقت غرغرة الإنسان وخروج روحه، ففي ذلك الوقت لا تنفع التوبة، ولا يقبلها الله تعالى.[٧]
إقرأ أيضا:كيف تحب اللهشروط قبول التوبة
حتى يقبل الله -تعالى- التوبة من الإنسان لا بدّ له من الحرص على تحقيق شروط قبول التوبة، وهي:[٦]
- الإخلاص لوجه الله تعالى؛ بحيث لا يكون المقصد من التوبة الرياء، أو غير ذلك.
- الندم على ما بدر من الإنسان من معاصي وآثام، فيشعر بالحزن على فعله إيّاها، ويتمنى لو أنّه لم يُقدم على ذلك.
- الإقلاع المباشر عن المعصية التي يتوب عنها، فلا يستمرّ على فعلها.
- العزم الأكيد على عدم العودة إلى تلك المعصية مجدّداً، بل تركها بشكلٍ نهائيٍّ.
- أن يأتي الإنسان بالتوبة في الوقت المشروط لها؛ أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها، أو يغرغر الإنسان وتبلغ روحه الحلقوم ويحين أجله، ولا بدّ للتائب من ردّ الحقوق إلى أصحابها إن كانت معصيته متعلّقةً بحقوق الآخرين، أو أن يطلب منهم المسامحة على حقوقهم، وتحليله منها