الحجّ
الحجّ ركن من أعظم أركان الدين، وفرض مؤكّد من فروض المسلمين، وسنّة أنبياء الله والصالحين، إلى رحابه الطاهرة تشتاق أرواح وقلوب المُحبين، وإليه تتّجه وجوه الراكعين والساجدين، وحول بيت الله الحرام تلتئم جموع الطائفين، وقصده بالعبادة شعيرة من شعائر المتقين، حُجّاجاً ومعتمرين، وهناك تصدح صيحات التهليل والتلبية ويعلو آذان الموحّدين، ويعلن جميع العبّاد براءة الله ورسوله من المشركين، وقد حجّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حجّة الإسلام، وسار معه أكبر جمع من صحابته المُكرّمين، فأخذوا عنه مناسك الحجّ، وأحكام المفردين، والقارنين، والمتمتعين، واستمعوا له في خطبةٍ ودّع فيها جموع المسلمين، وحمّلهم أمانة ومسؤولية تبليغ الدعوة للناس أجمعين، فما هي أعمال الحجّ، وكيف كان حجّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟
أركان الحجّ وواجباته
للحجّ أركان وواجبات يترّتب على الإتيان بها سلامة الحجّ، ورجاء تحصيل ثوابه، والأحكام المترتبة على ترك الأركان مختلفة عن أحكام ترك الواجبات، وبيان ذلك فيما يأتي.
أركان الحجّ
أركان الحجّ عند جمهور العلماء أربعة، وهي:[١]
- الإحرام؛ وهو نية الدخول في النّسك، ولا يصحّ بغير زمانه المحدّد بأشهر الحجّ، والإحرام له مكان محدّد، وهي المواقيت التي يحرم الحاجّ منها.
- الوقوف على صعيد عرفات، ووقته مُتّسع من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجّة، ويمتدّ إلى فجر يوم النحر العاشر من ذي الحجّة؛ فمن وقف بعرفة زمناً يسيراً من هذا، يكون مدرك للوقوف، وأتى بالركن.
- طواف الإفاضة؛ ووقته يبدأ من بعد الوقوف بعرفات ومزدلفة، ولا آخر لوقته عند الجمهور بل تبقى ذمّته مشغولة به ما دام حيّاً.
- السعي بين الصفا والمروة؛ ويبدأ وقته للحاجّ المتمتع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة وطواف الإفاضة، وأمّا الحاجّ القارن والمفرد فلهما أن يأتيا بهذا الركن بعد طواف القدوم.
- الأركان الأربعة السابقة لا يصحّ الحجّ بدونها، ولا تُجبر بدم ولا بغيره، بل لا بدّ للحاجّ من أدائها، كما أنّ مراعاة الترتيب في أداء هذه الأركان شرط لازم لصحتها عند جمهور أهل العلم.
واجبات الحجّ
واجبات الحجّ التي يصحّ الحجّ بترك شيء منها، وينجبر ما تركه الحاجّ بذبح شاة، تذبح وتوزّع على فقراء الحرم، وهي:[١]
إقرأ أيضا:من شروط الحج والعمرة- أن يكون الإحرام من الميقات المكاني المُحدّد شرعاً.
- الوقوف بعرفة إلى الغروب، لمن وقف نهاراً.
- المبيت بمزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجّة، مع جواز أن يدفع الحاجّ إلى منى في آخر الليل للضعفاء ومن يشقّ عليهم زحام الناس.
- المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وعدم ترك المبيت لغير عذر؛ فالنبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- بات بها.
- رمي الجمار، فيرمي الحاجّ جمرة العقبة يوم العيد، والجمرات الثلاث أيام التشريق، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه.
- الحلق أوالتقصير.
- طواف الوداع.
كيفيّة حجّ الرسول
أعلن الرّسول -عليه الصلاة والسلام- أنّه ينوي الحجّ، حيث مضى تسع سنوات ولم يحجّ، ونادى مناديه بالحجّ:
- بدأ المسلمون بالتوافد إلى الرسول الكريم في المدينة المنورة؛ رغبةً منهم أن يأتمّوا بالرسول -عليه الصلاة والسلام- في أداء هذا النسك، فاجتمع معه بنية الحجّ خلق كثير، وانطلق ومن معه من المسلمين راجلين وراكبين باتجاه مكة المكرمة، وعند وصوله إلى منطقة ذي الحليفة أظهر نيّة الحجّ، وشرع بالتلبية، فقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه: (فأَهَلَّ بالتوحيدِ: لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لك لبيكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والمُلْكُ، لا شريكَ لك، وأهلُ الناسِ بهذا الذي يُهِلُّونَ به).[٢][٣]
- عند دخول النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى مكّة، استلم الحجر الأسود، وسمّى الله، ثمّ كبّر، وبدأ بالطواف، حيث طاف سبعة أشواط، رمل في ثلاثة منها، وبعدها أتى إلى مقام ابراهيم، وصلّى هناك ركعتين، حيث جعل المقام بينه وبين الكعبة، وقرأ في الركعة الأولى سورة الكافرون، وفي الثانية سورة الإخلاص، ثمّ عاد للحجر واستلمه.[٣]
- توجّه الرسول إلى الصفا، واستقبل الكعبة، وقال: (لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، ولا إله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده)،[٤] ثمّ رفع يديه بالدعاء، وقد كرّر ذلك ثلاث مرّات، وبعدها اتّجه إلى المروة حيث كرّر ما ذكره أثناء وقوفه على الصفا من الأذكار، وكرّر الأذكار ثلاث مرّات، وقد سعى بين الصفا والمروة سبع مرّات، وبعد أن انتهى من السعي بقي على إحرامه؛ لأنّه أحضر معه الهدي.[٣]
- يوم التروية: هو اليوم الذي انطلق فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- من مكة إلى منى ملبياً، وأمر أصحابه الكرام أن يهلّوا بالحجّ من حيث نزلوا بمكة وينطلقوا إلى منى، حيث مكث فيها الرسول ومن معه من المسلمين إلى صبيحة يوم عرفة، وصلّى الفروض الخمس من ظهر الثامن من ذي الحجّة، إلى فجر العاشر منه قصراً من غير جمع، واشتغل المسلمون بالتلبية وذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، وغير ذلك من صالح الأعمال.[٥]
- لما طلعت شمس يوم التاسع من ذي الحجّة، يوم عرفة توجّه النبي وصحبه الكرام إلى عرفات، وكانوا بين ملبٍّ ومكبّر، ونزل الرسول بقبة من شعر نصبتْ له في نمرة ليستظلّ بها، ولمّا زالت الشمس ركب دابته، وخطب الناس بما اشتهر على ألسنة الناس بخطبة الوداع، حيث علّمهم مناسك الحجّ، وحذّرهم من خطورة الربا، وشنّع على الجاهلية مشين أعمالهم، وشدّد على حرمة الأنفس والأموال والأعراض، وأوصاهم بالاعتصام بكتاب الله وسنته رسوله، وأخبرهم أنّهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.[٥]
- صلّى النبي -عليه الصلاة والسلام- بالمسلمين صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً، جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ثمّ توجّه إلى موقفه في صعيد عرفات، واستقبل القبلة، وظلّ يذكر الله -عزّ وجلّ- ويدعوه، رافعاً يديه بالدعاء والابتهال إلى الله العظيم حتى غابت الشمس، وكان الرسول مفطراً ذلك اليوم.[٥]
- بقي النبي الكريم والمسلمون معه على صعيد عرفات حتى غروب الشمس، ثمّ اتّجهوا إلى المزدلفة، وأدّى هناك صلاة المغرب ثمّ العشاء جمعاً بنفس الأذان، ولكن كلّ صلاة بإقامة، ثمّ اضطجع حتى طلع الفجر، حيث أدّى صلاة الفجر، وبعدها ذهب إلى المشعر الحرام، وهناك استقبل القبلة، ودعا وكبّر، وهلّل، ووحّد، وكان النبي -عليه السلام- قد رخص في مزدلفة للضعفاء أن يذهبوا إلى منى بالليل، دون المكث في مزدلفة رفعاً للمشقّة عنهم.[٥]
- عاد الرسول إلى منى بعد الفجر وقبل طلوع الشمس بعد مزدلفة، ثمّ توجّه إلى الجمرة الكبرى، وهناك رمى سبع حصيات، وكان يقول: الله أكبر مع رميه لكلّ حصاة، ثمّ نحر هديه، ثمّ حلق بعدها، والتمس شيئاً من الطيب، ثمّ توجّه إلى البيت فطاف به.[٥]
- نزل الرسول بالأبطح في اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة، وبعد رمي الجمرات، بعد أنْ زالتْ الشمس، وصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبعدها نزل إلى مكة آخر الليل، وفيها صلّى الفجر بالناس، ثمّ طاف بالبيت طواف الوداع، وفي صبيحة هذا اليوم الرابع عشر من ذي الحجّة عاد مُتّجهاً إلى المدينة المنورة وكان قد أتمّ مناسكه