الصيام والقضاء
ممّا يمرُّ على المسلم من أحكام فقهيّة دقيقة خلال فترة حياته ما يتعلَّق بصيام الفريضة، حيث يصوم المسلم شهر رمضان المُبارَك كاملاً، ومن سماحة الإسلام أنّه لم يُلزم المسلم بالصيام إن كان لديه ما يمنعه من ذلك أو يُسبّب له الضرر بالصيام، فالأحكام الشرعية إنّما وُجدت؛ للتخفيف على الخَلق لا للإضرار بهم، ومن هذا المُنطلَق فإنّ بعض الناس في الكثير من الأحوال يحتاجون إلى الإفطار في شهر رمضان، وذلك قد يكون ليومٍ واحد وهو الغالب، أو قد يكون لمجوعة من الأيام، وفي كلِّ الأحوال يكون هذا الإفطار بناءً على أسباب دقيقة تُرخِّص وتُجيز له الإفطار في رمضان، وإلّا كان مُخالِفاً لما أمره الله به، ومن تلك الرُّخَص التي تُجيز له الفِطر مثلاً أن يكون مريضاً، أو مسافراً، أو أنّ لديه شيءٌ من الأعذار الشرعية المُبيحة للفِطر، كالحيض، والنّفاس، وغير ذلك، أو ربما يعرض على المسلم خلال صيامه ما يفسده ويلزم لأجله قضاء ذلك اليوم، فما الذي يترتَّب على المسلم لأجل قضاء الصيام؟ وكيف يقضيه، ومتى، وما الذي ينبني على قضائه، أو عدم قضائه، أو تأخير قضائه؟
معنى قضاء الصيام
قبل الدخول بتفاصيل القضاء وأسبابه، تجدُرُ الإشارة إلى معنى الصيام في اللغة، والاصطلاح الفقهيّ، ومعنى القضاء كذلك في اللغة والاصطلاح؛ حيث إنّ فَهم المسألة يكون بفَهم مُصطلَحاتها ومُحترزاتها الدقيقة، وفي ما يأتي بيان معنى هذين المُصطلَحين على وجه التحديد لغةً، وفِقهاً:
إقرأ أيضا:الرضا بأقدار الله- معنى القضاء: يأتي القضاء بمعنى الأداء، يُقال: قضى ما عليه من دين أي أدّاه إلى مُستحِقِّه، والقَضَاءُ كذلك: عملُ القاضي، وهي السُّلطة التي تفصل في الخصومات والنزاعات بين الناس طِبقاً لقوانين وتشريعات وشرائع مُخصَّصة لذلك، وقَضَى غَرَضَهُ: إذا نَالَ مُبتغاه، وكذلك قضى الشيء: أي أَتَمَّهُ، أو فَرَغَ مِنْهُ.
- معنى الصيام لغةً: يأتي بمعنى الإمساك والامتناع عن فِعل شيء وتَركه خلال فترة مُعيَّنة، ويُقال للصائم صائماً؛ لأنّه أمسك عن المُفطِرات جميعها من الطعام، والشَّراب، والجماع، ومن يصوم عن الكلام يُقال له صائماً؛ لامتناعه وإمساكه عن الكلام.
- معنى الصيام اصطلاحاً: عُرِّف الصيام في الفقه الإسلاميّ بأنّه الإمساك عن أشياء مخصوصة، هي: المأكل، والمشرب، والجماع، في أوقات وأزمنة مخصوصة، تتعلّق بشهر رمضان المُبارَك، خلال ساعات النهار المُمتَدَّة من بعد طلوع الفجر إلى غروب الشمس، من قِبَل أشخاص مخصوصين، حيث يُشترَط في الصائم أن يكون مسلماً طاهراً، بصفةٍ وقَصدٍ مخصوص، وهو التَّقرُّب من الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به.
وعلى ما سبق بيانُه في ما يتعلَّق بمعنى القضاء والصِّيام، يكون معنى قضاء الصيام أداء ما فات من صيام شهر رمضان المُبارَك، في غير وقته الذي فُرِض فيه، وفي أيّام غير أيّام الصيام المفروضة، أي خارج شهر رمضان المُبارَك.
أحكام قضاء الصيام
سبقت الإشارة إلى أنَّ للإفطار في شهر رمضان أسباب ومُبرِّرات، يتوجَّب توفُّرها في من يفطر خلال شهر رمضان، ويجب عليه قضاء ما فاته من الصيام عند انقضاء شهر رمضان، أمّا الأسباب المُبيحة للفِطر في رمضان فهي:[٤]
إقرأ أيضا:أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق الله فيها فعلك في العلانية- المرض : من أصابه مرضٌ في شهر رمضان المبارك خشي منه على نفسه بسبب استمراره في الصيام بأن يزيد مرضه، أو يُؤدّي إلى هلاكه، أو تأخُّر شفائه، فإنّ عليه تَرك الصيام والإفطار حالاً ما دام في الصَّوم ضررٌ عليه، وعليه أن يقضيَ ما فاته من الصيام بعد انقضاء شهر رمضان، لقول الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)،[٥] ويَصدقُ اسم المرض على الحائض، والنّفساء، وأصحاب الأعذار، قال ابن قدامة المقدسيّ في المُغني: (ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء إذا أفطروا، بغير خلاف)، أمّا إذا أتمَّ صيامه فلا شيء عليه ما دام لديه المقدرة على ذلك.
- السفر: رخَّصت الشريعة الإسلامية للمسافر أن يفطرَ في شهر رمضان ما دام على سفره؛ لتحقُّق المَشقَّة في السفر، وعدم استطاعة المسافر مُواصَلة سفره بلا طعام أو شراب، ولأنّ في ذلك ضررٌ ظاهرٌ عليه، وعليه أن يقضيَ ما فاته من الصيام بعد تمام الشهر إذا عاد من سفره واستقرَّ في بيته، تماماً كما هو الحال مع من أفطر بسبب المرض، ويُشترَط عند جمهور الفقهاء المالكيّة، والشافعية، والحنابلة عدّة شروط لجواز الإفطار لأجل السفر، منها: أن يكون السَّفر مُباحاً، وأن يبلغَ مسافة القَصر التي حدَّدها الفقهاء، فإن كان مسافراً في معصية فلا يجوز عندهم الفِطر له، وكذلك الحال إن لم يبلغ مسافة القَصر، وخالفهم الحنفيّة في ذلك فأجازوا الإفطار للمسافر ما دام قد فارق البلاد وكان سفره بحدود مسيرة ثلاثة أيام.
كيفية قضاء الصيام
كيفية قضاء الصيام لا تختلف باختلاف أسباب القضاء وترك الصيام، إلّا أنّ هناك بعض الجزئيات التي تُضاف إلى بعض الأسباب بحُكم ذلك السبب وما خلفه من مُسبِّبات الإفطار، وفي ما يأتي بعض النقاط الرئيسية التي يهتمّ بها من يريد قضاء ما فاته من رمضان لأيِّ سببٍ من الأسباب:
إقرأ أيضا:الصبر على الطاعة- من أفطر في رمضان، ولزمه القضاء، وكان قد أفطر عدّة أيام؛ فهو بالخيار، إمّا أن يقضيَ تلك الأيام مُتتابِعةً، أو يقضيَها مُفرَّقةً حسب حاله ومقدرته، وهو قول علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، وعبدالله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم جميعاً، بينما يرى جمهور الفقهاء أنّه بالخيار، إلّا أنّ التتابُع أولى ومُستحَبّ، وذلك مَنوطٌ بقدرته، فإن قَدر عليه فهو الأفضل.
- مع اتّفاق الأئمّة على جواز التأخير في القضاء إلّا أنّهم اتّفقوا كذلك على عدم جواز تأخيره حتى دخول رمضان آخر، وأنَّ من فعل ذلك دون عُذر شرعي كان آثماً؛ وذلك لحديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- حيث ثبتَ عنها قولُها: (كان يكون عليَّ الصومُ من رمضانَ، فما أستطيعُ أن أقضيَه إلا في شعبانَ، الشغلُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ).
- إذا أخَّر من عليه القضاء الصيام، فإنّ ذلك لا يخرج عن أمرين، هما: إمّا أن يكون مريضاً استمرَّ مرضُه حتى دخل رمضان آخر، وفي هذه الحالة لا شيء عليه لاستمرار سبب الإفطار، وليس عليه في هذه الحالة سوى قضاء ما فاته من الصيام عند مقدرته وبعد انقضاء رمضان، وإمّا أن يكون قد أخَّر صيام القضاء تكاسُلاً أو بدون عذرٍ أو مُبرِّرٍ شرعي، فعليه الإثم لتأخيره القضاء اتّفاقاً، وقد اختلف الفقهاء في ما إن كانت تجب عليه الكفّارة لتأخيره الصيام أم لا؟ فقال المالكية، والشافعية، والحنابلة، أنّ عليه لقاء ذلك كفّارة، ودليلهم ما رُوِي عن بعض الصحابة في ذلك، وخالفَهم الحنفية فلم يوجبوا عليه الكفّارة، بل قالوا إنّه لا يجب عليه إلّا القضاء؛ لعدم وجود دليلٍ على وجوب الكفّارة عليه.
- من أفطر عامداً مُتعمِّداً في نهار رمضان بالأكل والشرب، فقد اتّفق الفقهاء أنّه بذلك قد ارتكب كبيرة من الكبائر، وعليه أن يتوبَ إلى الله ويستغفرَه، واختلفوا في ما إذا كانت تجب عليه الكفّارة أم لا، فقال الحنفية، والمالكية أنّ الكفّارة تجب عليه، لأنّه انتهك حرمة شهر رمضان وحرمة الصيام بلا مُبرِّرٍ شرعي يُبيح له الإفطار، وكذلك قياساً على من جامع زوجته في رمضان، وقال بعض الفقهاء -منهم السرخسي- أنّه ليس عليه إلا القضاء ولا كفّارة عليه، بشرط أن يتوبَ إلى الله، قال السرخسي: (ولا مدخل للقياس في الكفارة، ألا ترى أنّه لا تقاس دواعي الجماع على الجماع فيه، ولأنّ الحرمة تارة تكون لأجل العبادة، وتارة لعدم الملك، ثم ما يتعلّق بالأكل لا يتعلّق بالمواقعة متى كانت الحرمة لعدم الملك فكذلك العبادة، واستدلّ بالحج فإنّ ما يتعلّق بالمواقعة فيه وهو فساد النسك لا يتعلّق بسائر المحظورات)، وهو رأي الشافعي، وأحمد