الفلسفة

كف الملام عن عمر الخيام

ملخص المقال

    كف الملام عن عمر الخيام، بيان حقيقة عمر الخيام من خلال سيرته وإسهاماته العلمية في الحضارة الإسلامية وحقيقة رباعيات الخيام ونسبتها إليه

الصورة الذهنية حول عمر الخيام
لا يُذكر عمر الخيام (517هـ) إلا وتتبادر إلى الذهن صورة ذلك الشاعر الماجن السِّكِّير الذي لا يُفارق الكأس كفَّه، ولا تفتر شفتاه عن التغني بالحبيبة التي لا تفارق خياله، وإذا أفاق مِن سُكره ارتمى في أحضان الشكوك، فإذا به: “روحٌ قلقة تُحيط بها الهواجس والخطرات، ونفسٌ متألمة تكتنفها الوساوس والخيالات” [1].

تلك هي الصورة الذهنية المرتبطة باسم عمر بن إبراهيم الخيام أو الخيامي النيسابوري، والتي نشأت مِن الرباعيات الشعرية التي تُنسب إليه.

رباعيات الخيام
إنَّ المتأمل في سيرة عمر الخيام يجده مدينًا بشهرته العالمية إلى رباعياته ذائعة الصيت، والتي تُرجمت إلى كثير مِن لغات العالم، وجعلته أشهر شعراء الفارسية قاطبة، حتى إنَّها تُرجمت إلى اللغة العربية وحدها أكثر مِن ثلاثين مرَّة.

ويدعو صاحب هذه الرباعيات إلى اغتنام اللحظة الراهنة والاستمتاع بمباهج الحياة الدنيا، مِن خمور ونساء، ويُعبر فيها عن حزنه وأسفه وحسرته ولهفته واضطرابه وجزعه وحيرته لِقِصر العُمر وعجز الإنسان وضعفه ووهنه أمام فهم لغز الحياة والموت والفناء، ولا يكف عن الاستفهام والاستفسار وإعلان التمرد والعصيان والتردد والشك والريبة.

وهو ما دفع البعض إلى اتهام الخيام بالمجون والزندقة والإلحاد والاستهتار بالأحكام الإسلامية، والقول بأنَّه جبري وباطني ولا أدري وتشاؤمي وتناسخي.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:
هل يُمكن الحُكم على الخيام مِن خلال الرباعيات المنسوبة إليه؟

إنَّ العمل الأدبي المقطوع بنسبته إلى الأديب هو أهم وثيقة يُمكن الرجوع إليها في الاطلاع على أفكار ذلك الأديب والحُكم عليه، يليه في ذلك أقدم ما كُتب عنه. ولهذا فإنَّ الباحثين يستندون إلى الرباعيات في رسم ملامح شخصية الخيام واستخلاص أفكاره وآرائه في الحياة وكيفية قضائها ونظرته للدين والأنبياء والكون والحياة.

ولكنَّنا أمام عمل أدبي لا يوجد إجماع على نسبته إلى صاحبه، حتى إنَّ البعض يرى أنَّ الرباعيات الموثوق في نسبتها إلى الخيام بين 11 و17 رباعية فقط مِن بين ما يزيد على ألف رباعية [2].

كما أنَّ الرباعيات حافلة بالتناقض والتعارض الذي دفع البعض إلى القول بوجود خيَّامَين لا خيام واحد، إذ كيف يُمكن التوفيق بين المُجاهرة بالذنب ورفض التوبة في قوله:

لا عِشتُ إلا بالغواني مُغـرمًا
وعلى يدي تبر المُدام الذائبُ
قالوا سيقبل منك ربُّك توبــةً
لا الله قابلهــا ولا أنـــا تائبُ

وبين جميل الأمل في عفو الله تعالى في قوله:

لــو ارتكبـــت خطايـــا النَّاس كلهمُ
لكنــتُ أرجــو لذنبي مِنكَ غُفـرانَــا
قــد قلــتَ إنَّك يوم العجز تنصرُني
لا عجز أعظمُ لي مِن عجزي الآنَا

بل إنَّ الخيام لم يُعرف في عصره بكونه شاعرًا أصلاً، فقد وَرَد أقدم ما في حوزتنا مِن أخبار عن الخيام في كتاب “جهار مقاله” أو “المقالات الأربع” لتلميذه نظامي السمرقندي (550هـ)، واللافت للنظر أنَّ الأخبار التي وَرَدَت عنه في هذا الكتاب لم تَرد في المقال المتعلق بالشعر والشعراء، وإنَّما وَرَدَت في المقال المتعلق بعلم النجوم والمنجمين [3].

كما لم يذكر عوفي (ق 7هـ) شيئًا بالمَرَّة عن الخيام في أقدم كُتب تراجم الشعراء المكتوبة بالفارسية وهو “لباب الألباب”، ولم يُخصص دولتشاه (900هـ) مقالة مستقلة للخيَّام في كتابه “تذكرة الشعراء”، وإنَّما تحدث عنه عَرَضًا في ترجمته لأحد أحفاده [4].

لماذا إذن كل تلك الشهرة لرباعيات لم تثبت نسبتها إلى صاحبها؟
يعود الفضل في شهرة الخيام إلى الغرب الذي احتفى بالرباعيات وصاحبها، ويرجع الفضل في ذلك إلى الشاعر الإنجليزي “فيتزجيرالد” الذي ترجم الرباعيات سنة 1856م، وهي ترجمة منظومة أبدع المترجم في التوفيق بينها وبين العقلية الغربية في ذلك الوقت، ولهذا فقد اتفقت معاني هذه الترجمة وأمثالها مِن الترجمات مع أهواء الغربيين وميولهم.

ومِن هنا ظهرت جُملة كبيرة مِن الكُتب والرسائل حول الخيام ورباعياته، وأخذت تنتشر في أوروبا وأمريكا، حتى قال المستشرق “ناثان هكسل دول”: إنَّ “مجرد جمع ما كُتب عن عمر الخيام في سائر اللغات يقتضي مِن المرء أن يتفرغ لذلك طول حياته الكاملة، وإنَّ مجموع المؤلفات التي كُتبت عنه تكفي -بلا شك- لإنشاء مكتبة عامرة حافلة” [5].

إنَّ الحُكم على عمر الخيام وتقديم صورة أقرب ما تكون إلى شخصيته الحقيقية يتطلب منَّا أن نغضَّ الطرف عن الرباعيات المنسوبة إليه بما فيها مِن تناقضات وما يحيط بها مِن شكوك، وأن يكون أساس اعتمادنا على الروايات المؤكدة والحقائق الثابتة والاستدلالات المنطقية المقبولة.

فإمَّا أن تؤكد الصورة التي رسمتها الرباعيات للخيَّام أو تُغير في تفاصيلها أو تمحوها بالكليَّة وتُقدم صورة جديدة لهذا الرجل.

حقيقة عمر الخيام
لقد وَرَدت في بعض كُتب التراجم العربية والفارسية روايات تَصف شخصية الخيام وتُنصفه وتشهد بفضله وتبحره في علوم عصره، فقد قال عنه نظامي السمرقندي: “كنت أعلم أنَّ الخيام لا يتكلم إلا عن رويَّة ..، ولم أجد في هذا العالم نظيره” [6].

ووصفه أبو بكر الرازي (654هـ) في “مرصاد العباد” بأنَّه أحد فضلاء عصره، وأنَّه “المشهور بحكمته وكياسته” [7].

وقال عنه البيهقي (565هـ) في “تتمة صوان الحكمة”: إنَّه كان “تلو علي بن سينا في أجزاء علوم الحكمة ..، وكان عالمًا بالفقه واللغة والتواريخ” [8].

ووصفه القفطي (646هـ) في “إخبار العلماء” بأنَّه “إمام خراسان وعلامة الزمان، يعلم علم اليونان ..، وكان عديم القرين في علم النجوم والحكمة، وبه يُضرب المثل في هذه الأنواع” [9].

وقال عنه القزويني (682هـ) في “آثار البلاد وأخبار العباد” إنَّه “كان حكيمًا عارفًا بجميع أنواع الحكمة سيما نوع الرياضيات” [10].

ويذكر البيهقي أنَّ الخيام قد دخل يومًا على الوزير عبد الرزاق بن عبد الله وكان يتكلم مع إمام القُرَّاء أبي الحسن ابن الغزال (516هـ) في اختلاف القُرَّاء في آية، فقال الوزير: على الخبير سقطنا، فسُئل الإمام عمر عن ذلك فذكر وجوه اختلاف القُرَّاء وعلل كلام كلِّ واحدٍ منهم وذكر الشواذ وعللها وفَضَّل وجهًا واحدًا. فقال ابن الغزال: “كثَّر الله في العلماء مثلك، اجعلني مِن بعض أهلك وارض عني، فإنِّي ما ظننت أحدًا مِن القرَّاء في الدنيا يحفظ ذلك ويعرفه فضلاً عن واحدٍ مِن الحكماء” [11].

الإسهامات العلمية للإمام عمر الخيام
وإذا انتقلنا إلى الحقائق الثابتة فسنجد أن الخيام قد أسهم بمجهوداته العلمية في مجالات عديدة، منها: الفلك والرياضيات والفلسفة والطب، الأمر الذي جعلهم يلقبونه في عصره بالإمام وحجَّة الحق والعلامة والحكيم والدستور والفيلسوف.

لقد ذكر ابن الأثير في أحداث عام 467هـ أن السلطان السلجوقي ملكشاه (485هـ) جمع جماعة مِن أعيان المُنجمين “وجعلوا النيروز أول نقطة مِن الحَمَل ..، وصار ما فعله السلطان مبدأ التقاويم ..، وفيها أيضًا عمل الرصد للسلطان ملكشاه واجتمع جماعة مِن أعيان المُنجمين في عمله منهم عمر بن إبراهيم الخيامي ..، وبقي الرصد دائرًا إلى أن مات السلطان سنة 485هـ” [12].

وقال القزويني: إنَّ السلطان سَلَّم الخيام أموالاً كثيرة ليشتري بها آلات المرصد المذكور [13].

ويُعدُّ التقويم الجلالي المنسوب إلى جلال الدين ملكشاه مِن أهم الإنجازات العلمية التي أشرف الخيام على إنجازها، وهو أكثر دقة مِن التقويم الميلادي [14].

ولعمر الخيام تراثٌ علمي مكتوب يتمثل في الرسائل التي ألفها في الرياضيات والفلسفة والطبيعيات والكيمياء، وهي باللغتين العربية والفارسية، ومنها المنشور والمخطوط. فقد ترك في مجال الرياضيات عدة رسائل، منها: رسالة في الجبر والمقابلة، ورسالة في قسمة ربع الدائرة، ورسالة في شرح ما أشكل مِن مصادرات إقليدس.

وترك خمس رسائل في الفلسفة، منها رسالة بالفارسية تُسمى كليات الوجود، وبقية الرسائل بالعربية، وهي رسالة الكون والتكليف، ورسالة في الجواب على مسائل ثلاث، هي ضرورة التضاد في العالم والجبر والبقاء، ورسالة في موضوع العلم الكلي، ورسالة في الوجود.

ومِن المؤلفات التي تركها الخيام في مجال العلوم الطبيعية رسالة في الاحتيال لمعرفة مقداري الذهب والفضة في جسم مركب منهما.

هذا بالإضافة إلى أعمال أخرى، منها رسالة لوازم الأمكنة في الفصول وعلة اختلاف الهواء في المدن والأقاليم، ورسالة “نورزنامه” التي ذكر فيها أعياد الفرس ومواسمهم وتواريخهم وآدابهم.

أمَّا الاستدلالات المنطقية فيُمكن استنباطها مِن سيرة الخيام، وذلك بالاطلاع على مكانته في عصره ومعرفة دائرة علاقاته والاحترام الذي كان يحظى به مِن أكابر العصر وفضلائه، فقد ذكر حمد الله المستوفي القزويني أنَّ الخيام كان مِن ندماء السلطان ملكشاه السلجوقي[15].

وذكر الشهرزوري أنَّ الخاقان شمس الملوك في بخارى كان يُعظمه غاية التعظيم ويُجلسه معه على سريره [16].

وكانت بين الخيام وأكابر علماء عصره مناظرات ومراسلات، ومنهم القاضي أبو نصر النسوي (ق5هـ) والفيلسوف أبو حاتم الأسفزاري (480هـ) والإمام الزمخشري (538هـ). وكان الخيام يدخل عليهم مجالسهم ويدخلون عليه، فقد وَرَد أنَّ الإمام أبا حامد الغزالي (505هـ) قد دخل على الخيام ليسأله في تعيين جزء مِن أجزاء الفلك القطبية [17]، وأنَّ الإمام ظهير الدين البيهقي قد دخل عليه ودار بينهما حوار عن بيت مِن أشعار الحماسة العربية.

وهكذا يتضح لنا أنَّه “مَا كان الخيام ناقص التهذيب فقد عرفنا سيرته ومكانته العلمية، ومَا كان مُختل التفكير فإنَّ علمه وأدبه ومؤلفاته دلَّتنا على تفكيره الراقي، ومَا كان مضطرب العقل والمزاج فقد عَرَّفنا المؤرخون برجاحة عقله ورزانته وأنَّه كان آية في العقل والذكاء والفطنة، ومَا كان خليعًا سافل الطبع؛ إذ لا يكون الخليع السافل جليس الملوك ونديم الأمراء، ولم يذكر أحدٌ أنَّه كان مُدمنًا للخمرة سكيرًا” [18].

إنَّ الصورة التي ترسمها الروايات والحقائق والاستدلالات المنطقية لعُمَر الخيام هي صورة عالم مسلم بَرَع في الرياضيات والفلك والفلسفة وكان على علم بالفقه واللغة والتواريخ والقراءات السبع.

فإذا وضعت هذه الصورة في كفة، ووضعت صورة الخيام التي رسمتها الرباعيات المنسوبة إليه في الكفة الأخرى رجحت الأولى، وهو ما يجعلنا نُنادي بإعادة تقديم عمر الخيام إلى النَّاس وتسليط الضوء عليه كَعَالم مسلم أسهم في إثراء الحياة العلمية في عصره.


[1] أحمد حامد الصراف: عمر الخيام، بغداد، مطبعة دار السلام، 1931م، ص120.
[2] أبو النصر مبشر الطرازي: كشف اللثام عن رباعيات الخيام، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987م، ص143.
[3] انظر: عروضي نظامي سمرقندي: جهار مقاله، طهران، انتشارات ارمغان، 1327هـ.ش، ص98-99.
[4] Browne, Edward G. A Literary History of Persia, V.4, London, Adelphi Terrace, 1906, P. 246.
[5] Ibid, P. 256.
[6] سمرقندي: جهار مقاله، ص99.
[7] أبو بكر عبد الله بن محمد الرازي: مرصاد العباد، طهران، مطبعة المجلس، 1352هـ.ش، ص18.
[8] ظهير الدين علي البيهقي: تتمة صوان الحكمة، بيروت، دار الفكر، 1994م، ص203.
[9] جمال الدين أبو الحسن علي القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القاهرة، مطبعة السعادة، 1366هـ، ص162-163.
[10] زكريا بن محمد القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت، دار صادر، ص474.
[11] البيهقي: تتمة صوان الحكمة، ص203.
[12] أبو الحسن علي بن محمد ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج8، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987م، ص408.
[13] القزويني: آثار البلاد، ص474.
[14] عبدالمنعم الحفني: عمر الخيام والرباعيات، القاهرة، دار الرشيد، 1992م، ص22.
[15] حمد الله مستوفي قزويني: تاريخ كزيده، تهران، انتشارات امير كبير، 1393هـ.ش، ص728.
[16] شمس الدين محمد الشهرزوري: نزهة الأرواح وروضة الأفراح، حيدر آباد، 1976م، ص13.
[17] المصدر السابق، نفس الصفحة.
[18] الصراف: عمر الخيام، ص95.

السابق
القزويني
التالي
أبو حاتم السجستاني – عالم اللغة والقراءات