فتح العراق وفارس

فتح خراسان

ملخص المقال

    خراسان حيث كان فتح خراسان التي تقع في وسط الدولة الفارسية ذا أهمية كبيرة، وذلك لاختفاء يزدجرد الثالث كسرى الفرس بها، فكيف استعد المسلمون لفتح خراسان؟

عمر الملهم.. والعناية الإلهية :

توقفنا في المقال السابق عند جيش سيدنا سارية بن زُنَيْم في “دارا بجرد”، والموقف العصيب الذي لاقاه الجيش بتجمع وفود مختلفة من أماكن متعددة من الدولة الفارسية لحربه، وذكرنا أن الحل جاء من المدينة رغم بُعد المسافة بينها وبين بلاد فارس، ولكنه نصر الله الذي امتنَّ به على عباده المؤمنين: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].

 

في هذا الموقف الذي ألَمَّ بالمسلمين، وقد أحاط بهم الفرس من كل مكان، وظنوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وفي ذلك التوقيت ينام عمر بن الخطاب t، فيرى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، ورأى أن الوفود تجتمع من أماكن مختلفة لتحاصر جيش المسلمين، وأن الجيش الإسلامي وقع في مأزق، واستيقظ t وأراد أن يخبر جيش المسلمين بالحل، ولكن كيف؟ فلو بعث إليهم رسولاً لاستغرق وقتًا طويلاً؛ لأن المسافة بينه وبين الجيش الإسلامي بعيدة تستغرق ثلاثة عشر يومًا، وكان اليوم التالي يوم الجمعة فبدأ يشرح للمسلمين في خطبة الجمعة أن الجيش الإسلامي في مأزق، وأن الجيوش الفارسية تحاصرهم من كل مكان، وهو يرى أن المسلمين بصحراء؛ إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى الجبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قال: يا سارية، الجبلَ الجبلَ! ثمَّ أقبل عليهم، وقال: “إنَّ لله جنودًا لا نعرفها، ولعل بعضها أن يبلغهم”.

إقرأ أيضا:موقعة الجسر

 

في هذا الموقف العصيب الذي يعيشه الجيش في “دارا بجرد” وبعد أن بلغت القلوب الحناجر، وانقطعت الأسباب، ووثق المسلمون في نصر الله، وأن الله ناصر دينه، تتنزل العناية الإلهية بالنصر على المؤمنين، ويكون النصر من رجل لم يكن في ميدان القتال أو يعرف طبيعة المكان، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء. ويسمع المسلمون صوتًا من السماء يقول: “يا سارية، الجبلَ”، وهذه الرواية ثابتة في الصحيح.

 

ونفَّذ سيدنا سارية ما سمع؛ فذهب بالجيش إلى الجبل وجعله في ظهره، وقاتلوا الفرس من وجه واحد والجبل في ظهرهم، حتى أتم الله النصر للمسلمين، وانتصر الجيش الإسلامي على كل الجموع التي جاءت لتفتك به، وحقق المسلمون نصرًا عظيمًا، وجمعوا غنائمَ كثيرة من الفرس.

 

فتح خراسانلا أحد يعلم جنود الله أو الكيفية التي ينصر الله بها المسلمين إذا هم اتبعوا منهجه، ولكن كما يقول سيدنا عمر بن الخطاب: “إن لله جنودًا لا نعرفها، ولعل بعضها أن يبلغهم”.

ولم يكن بوسع سيدنا عمر بن الخطاب أن يرسل رسولاً بهذه السرعة لينقل الخبر إلى سارية بن زنيم؛ فقال هذه الكلمة يخاطب بها الجيش الإسلامي، وهو يعلم أن صوته لن يفعل شيئًا ولكنه جُهْد المُقِلّ. ولما رأى الله صدق إيمان سيدنا عمر بن الخطاب، وصدق إيمان الجيش في دارا بجرد أتم الله لهم النصر.

إقرأ أيضا:فتح المدائن

 

وقد تتحقق مثل هذه الكرامة في أي وقت من الأوقات، وقد يُلْهِم الله I قائد الجيش الحل، فدائمًا يلهم الله جنده بوسيلة قد لا يخطط لها المسلمون مطلقًا، ولكن ما عليهم هو الأخذ بالأسباب كاملة.

 

عففت فعفت رعيتك :

وبعد الانتصار العظيم الذي حققه الجيش الإسلامي بقيادة سيدنا سارية بن زنيم في “دارا بجرد”، سقط إقليم فارس كاملاً، وسيطر المسلمون على أنحاء الدولة الفارسية، وبدءوا في توزيع الغنائم، وبقي من الغنائم سفط، أي: وعاء فيه جواهر لم يستطع تقسيمها بين المسلمين؛ فاستأذن سارية بن زنيم المسلمين أن يبعث بهذا السفط إلى عمر زيادةً على الخمس الذي يذهب إلى بيت المال.

 

وهنا نذكر مواقف سيدنا عمر مع سيدنا السائب بن الأقرع لما قدم عليه بجواهر، وكانت زيادة على الخمس، فقال: ليس أحق بهذا المال إلا الجيش. وأمره أن يبيعه ويقسم ثمنه بين المسلمين، وذكرنا أيضًا موقف أمير الجيش الذي أرسل طعامًا إلى سيدنا عمر بن الخطاب يخصه به ولم يأكل الجيش منه؛ فأرسل سيدنا عمر بن الخطاب إليه وقال له: إنه ليس من كَدِّك، ولا من كَدِّ أمك، ولا كَدِّ أبيك، ولا يشبع عمر من شيء لم يشبع منه المسلمون. كان هذا هو دَيْدَن سيدنا عمر بن الخطاب t.

إقرأ أيضا:توسع الفتح الإسلامي في بلاد فارس

 

وكما نعلم أن فتح أقاليم الشمال وأقاليم الوسط كان في وقت واحد، ولما قرر سيدنا سارية بن زنيم أن يبعث هذا السفط لم يكن يعرف ما حدث من عبد الله بن عتبان وردّ سيدنا عمر عليه، ولكن اجتهد كلٌّ منهما هذا الاجتهاد في نفس الوقت، وأرسلوا هذه الأشياء إلى سيدنا عمر بن الخطاب؛ فاختار سارية بن زنيم رسولاً من الرسل وهو من أهل العراق ولا يعرفه سيدنا عمر بن الخطاب؛ ليبشره بالنصر وأرسل معه خُمس الغنائم وسَفَط الجواهر (وكان الرسل والوفد يُجَازَوْن وتُقضَى لهم حوائِجُهم)؛ فقال له سارية: استقرض ما تبلغ به وما تُخلِفه لأهلك على جائزتك. ففعل، ثم خرج فقدم على عمر، فوجده يطعم الناس ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره، فقال: اجلس. فجلس، حتى إذا أكل القوم انصرف عمر، وقام فاتبعه، فظن عمر أنه لم يشبع، فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخُل. فلما جلس في البيت أُتِيَ بغَدائه: خبز وزيت وملح جَرِيش وماء، فوُضِعَ، فقال: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ قالت: إني لأسمع حِسَّ رجلٍ. فقال: أجل. فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال، لاشتريت لي غير هذه الكسوة. فقال: أوَ ما ترضَينْ أن يُقَالَ: أم كلثوم بنت عليٍّ وامرأة عمر؟! فقالت: ما أقلَّ غَناء ذلك عني! ثم قال للرجل: اُدْنُ فَكُلْ، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى. فلما أكلا وفرغا قال: أنا رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين. قال: مرحبًا وأهلاً. فأدناه حتى مست ركبتُهُ ركبَتَه، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم؛ فأخبره بنصر الله الذي أتمه للمسلمين وهزيمة الفرس. فقال له سيدنا عمر: اِحْكِ لي الحوادث.

 

فقال: كان جيش المسلمين في مأزق شديد حتى سمعنا “يا سارية الجبلَ”؛ فأخذنا جانبًا من الجبل، فجعلنا الجبل في ظهرنا وانتصرنا على عدو الله بفضل الله. فقال: الحمد لله. وأخرج له خمس الغنائم، ثم قال: وهذا سفط من الجواهر جعله سيدنا سارية فوق الخمس. فغضب سيدنا عمر بن الخطاب غضبًا شديدًا، ثم صاح به: لا، ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجند فتقسمه بينهم. ما أشبع الله -إذن- بطن عمر، أما والله لئِن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن تقسم عليهم هذا، لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة. فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد أَنضيتُ إبلي، واستقرضت على جائزتي، فأعطني ما أتبلَّغ به. فما زال به، حتى أبدله بعيرًا ببعيره من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله في إبل الصدقة، ثم وعده بشيء آخر إن هو ردَّ المال، ورجع الرسول محرومًا حتى دخل البصرة.

 

وهذا العدل الذي ظهر من سيدنا عمر بن الخطاب هو الذي دفع الجيش إلى أن يحب سيدنا عمر بن الخطاب t، وبذلك العدل انتصر المسلمون على هذه الدولة العظيمة التي ملأ الظلم والجور أركانها، ولم يُعْرَفْ في هذه الدولة حَقٌّ للمقاتل أو حق للفارسي بصفة عامة، ولكن كل الحقوق كانت تذهب إلى كسرى فارس وإلى الأمراء، ثم بعد ذلك يذهب الفتات إلى الجيش عكس الجيش الإسلامي تمامًا، وبذلك سقط الإقليم الأم في أعظم دولة احتلت جيرانها من الدول الأخرى، ويُعدّ سقوطها سهلاً نسبيًّا مقارنة بالمناطق الأخرى، ونذكر هنا أن هذه الأحداث كلها وقعت في سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، وأن أحداث الفتح الإسلامي لبلاد الفرس بدأت في العام الثاني عشر من الهجرة، وبذلك فقد استمرت الحروب في بلاد الفرس نحو عشر سنوات، كانت الهزائم تتوالى خلالها على الفرس؛ فكان من الطبيعي أن يُهْزَموا في هذه المعركة أيضًا بفضل الله I.

 

فتح شرق فارس (كرمان ـ سجستان ـ مكران):

فتح كَرْمان:

بعد انتهاء فتح دارا بجرد أرسل عمر بن الخطاب جيوشًا أخرى لاستكمال الفتوح في الدولة الفارسية:

في شرق منطقة فارس توجد مدينة “كرمان”، وكرمان داخلة في حدود إيران اليوم، وفي جنوب كَرْمان مدينة “مُكْرَان” -ومكران هي باكستان حاليًا- ثم إقليم “سجستان” وهو جزء من أفغانستان، و”خراسان” وتقع في الوسط، وسيكون لها جيش خاص.

 

يقرر سيدنا عمر بن الخطاب أن يرسل جيشًا من البصرة إلى كرمان لفتحها، وعلى رأس الجيش سيدنا سهيل بن عدي من صحابة النبي، وفي الوقت نفسه كان سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان قد انتهى من فتح أصبهان، فأمر سيدنا عمر بن الخطاب جيش سيدنا سهيل بن عدي أن يدخل كرمان من الجنوب، ويسانده جيش عبد الله بن عبد الله بن عتبان من أصبهان من الشمال حتى يدخل المسلمون على كرمان من منطقتين مختلفتين فيتم النصر للمسلمين، وبالفعل يلتقي الجيشان مع جيش كرمان الذي يملؤه الرعب، وكان الرعب قد تسلل إلى قلوب جيش الفرس لأمرين:

 

الأمر الأول:

أن كرمان تقع في شرق إقليم فارس في الدولة الفارسية الأم التي تحتلها منذ أربعمائة عام؛ لذا فقد امتلأت قلوبهم رعبًا من هذا الجيش الذي استطاع أن يقضي على هذه الدولة القائمة منذ أربعمائة عام.

 

الأمر الثاني:

قَتْلُ قائد كرمان السابق في معركة “تَوَّج” -وكان مددًا لأهل فارس في هذه المعركة- على يد سيدنا مجاشع بن مسعود.

 

ولك أن تتخيل نتيجة هذه الموقعة بين جيش يملؤه الرعب وجيش آخر يمتلئ قلبه بالثقة في موعود الله ونصره، وأنه ينتظر إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة.

 

فتح سجستان:

بعد أن هزم الله جيش كرمان وانتصر المسلمون بمَنِّ الله وفضله، وتولى أمر كرمان سيدنا سهيل بن عدي t، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب جيشًا خاصًّا إلى إقليم سجستان الجزء الجنوبي لأفغانستان، على رأسه سيدنا عاصم بن عمرو التميمي t، وله ذِكْرٌ طويل في فتوحات فارس منذ بدايات الفتح الفارسي مع سيدنا خالد بن الوليد من العام الثاني عشر الهجري، وله بطولات كثيرة، ومن بطولاته أنه كان قائد “كتيبة الأهوال” أول كتيبة دخلت المدائن عاصمة الدولة الفارسية.

 

يتوجه سيدنا عاصم بن عمرو التميمي على رأس جيش قادم من البصرة في طريقه مباشرة إلى سجستان، ليس له شأن بالجيوش التي تقاتل في كرمان أو غيرها، ولكنه يذهب إلى الوجهة التي وجهه إياها عمر بن الخطاب t، وهناك في سجستان يلتقي مع جيشها في موقعة صغيرة، وانتصر عليهم انتصارًا سريعًا؛ فطلب الفرس في ذلك الوقت الصلح مع سيدنا عاصم، ووافق سيدنا عاصم وأعطى الفرس الجزية للمسلمين، ثم دخل معظم إقليم سجستان في الإسلام، ومنذ دخل فيهم الإسلام ظلوا عليه ولم يرتدوا عنه، وأتم الله فتح إقليم سجستان في العام الثاني والعشرين من الهجرة.

 

فتح مُكْرَان:

يخرج جيش من البصرة بأمر سيدنا عمر بن الخطاب t وبخطة منه ليستكمل فتح جنوب الدول الفارسية، وعلى رأس هذا الجيش سيدنا الحكم بن عمرو، ويولِّي هذا الجيش وجهه نحو مكران، ويأمره سيدنا عمر بن الخطاب بأن يستعين بعبد الله بن عبد الله بن عتبان الذي فتح أصبهان وساعد في فتح كرمان.

 

ويلتقي عبد الله والحكم قبل أن يلتقوا مع الفرس في منطقة مكران في معركة شديدة ظلت أيامًا، وكان على رأس الفرس في منطقة مكران ملك يدعى “راسل” ظل يقاتل أيامًا عديدة حتى قتله المسلمون، واستباحوا معسكره تمامًا، وحدثت مقتلة عظيمة في الجيش الفارسي، وبدأ الجيش الفارسي يفر من أمام المسلمين إلى مملكة الهند شرق مكران وخارج حدود المملكة الفارسية، ولم يبق في منطقة كرمان غير الفلاحين الذين أسلموا جميعًا، ومنذ دخولهم في الإسلام لم يرتدوا عنه، وكان هذا هو الفتح الأول في منطقة أفغانستان ومنطقة باكستان، أما الفتح الكامل لهما فسيأتي في عهد سيدنا عثمان t، وسيأتي على يد سيدنا محمد بن القاسم الثقفي رحمه الله، وأما منطقة سجستان وما فوقها في الشمال ففتحها سيتم على يد قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله.

وبذلك سقطت معظم الدولة الفارسية، وأصبحت الفتوحات أسهل بكثير من بدايتها، وكان ذلك في العام الثاني والعشرين من الهجرة.

 

فتح خراسان:

تقع خراسان في وسط الدولة الفارسية، وكانت ذات أهمية كبرى؛ لذا أفرد لها سيدنا عمر بن الخطاب جيشًا خاصًّا، والناظر في حروب الفرس يجد أن سيدنا عمر قسّم جيوش المسلمين إلى ثلاثة أقسام:

 

قسم خارج من الكوفة لفتح منطقة الشمال في الدولة الفارسية، وقد أتم هذا الجيش مهمته على أكمل وجه؛ فقد أتم فتح كل المنطقة الشمالية، وفتح جرجان وطبرستان في هذه المنطقة، ووصل إلى حدود مملكة الترك، بل دخل إلى بلاد الترك وذلك على يد عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.

 

والقسم الثاني من الجيوش اتجه إلى جنوب فارس وأتم مهمته بنجاح، فقد تم فتح إقليم فارس ومكران وسجستان.

 

أما القسم الثالث من الجيوش الإسلامية فكان قادمًا من البصرة إلى فتح خراسان في عمق البلاد الفارسية، وخراسان هي الحدود الشرقية لدولة فارس مع الصين، وبفتح خراسان يتم فتح الدولة الفارسية بكاملها.

 

وهناك في فتح خراسان أمر ذو أهمية قصوى، وهو اختفاء يزدجرد الثالث كسرى الفرس في مدينة “مرو الشَّاهِجَان” إحدى مدن إقليم خراسان الموجود في شرق إقليم الدولة الفارسية، فتوَجُّه الجيوش الإسلامية إلى يزدجرد وقتله أمر ضروري؛ لأن بقتله تسقط الدولة الفارسية ولا تقوم لها قائمة بعد ذلك، فهو الرأس الذي يدبر للدولة الفارسية، وبوجوده يلتف حوله الفرس ويدافعون عنه حماسةً للدولة الفارسية.

 

فهذه المعركة -إذن- تحمل طابعًا خاصًّا، فالجيش متوجه إلى ملك الفرس كسرى الذي بقتله لن تقوم للفرس قائمة، وكما قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: “إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ“.

 

ولطابع المعركة الخاص أخرج سيدنا عمر بن الخطاب t على رأس الجيش قائدًا خاصًّا، لأول مرة يقود جيشًا وهو سيدنا الأحنف بن قيس، فيخرج من البصرة على رأس جيش لفتح خراسان، ولمطاردة يزدجرد الثالث كسرى فارس.

 

وقبل الخوض في غمار المعركة، ومطاردة الفريقين لبعضهما البعض نتكلم عن الفريقين أولاً:

 

الفريق الأول:

وهو فريق يزدجرد الفارِّ الهارب، ومنذ صعوده إلى عرش فارس وهو يهرب، فقد تقلَّد حكم فارس أثناء وجود الجيوش الإسلامية في العراق، وبعد أن تولى الحكم دخل المسلمون إلى المدائن؛ فهرب كسرى إلى مدينة حلوان على بعد ما يقرب من مائتي كيلو متر شرقي المدائن، وبدأت الجيوش الإسلامية في غزو المدائن، وبعد أن أتم الله فتحها، اتجه المسلمون إلى حلوان وانتصرت جيوش الإسلام في معركة جَلُولاء قبل حُلوان، فهرب يزدجرد من حلوان إلى الري، ومكث في الري فترة؛ لأن سيدنا عمر أمر المسلمين بعدم الانسياح في بلاد فارس، وكان ذلك في العام السابع عشر الهجري، ثم دخل المسلمون أرض فارس بعد نصيحة بعض المخلصين بغزو الفرس وقتل يزدجرد، وكان الناصح لسيدنا عمر سيدنا الأحنف بن قيس.

 

وكانت نصيحته تنص على أن كسرى لن يكل من محاربة المسلمين، وسيلتفّ الناس حوله ما دام حيًّا فالأفضل محاربته؛ فبموته تنتهي الدولة الفارسية. ويأخذ سيدنا عمر برأي سيدنا الأحنف بن قيس، ويرسل إلى الري جيشًا على رأسه سيدنا نعيم بن مقرن، ولما توجه الجيش إلى الري هرب كسرى إلى مرو الشَّاهِجَان في عمق بلاد فارس -على بُعد المسافة بينهما- حتى يأمن وصول الجيش الإسلامي إليه، ومن مرو الشاهجان بدأ بتحفيز الجيوش الفارسية مرة أخرى لمحاربة المسلمين، واستقر يزدجرد الثالث في مرو الشاهجان.

الفريق الثاني:

وهو الرجل الذي أمَّره سيدنا عمر بن الخطاب على الجيش لمحاربة يزدجرد، وهو سيدنا الأحنف بن قيس، وكان من أحكم وأدهى وأذكى العرب ومن أحلمهم أيضًا، ويُضْرَب به المثلُ في الحلم والأناة واشتهر بذلك، واسمه الضحاك بن قيس، والأحنف صفة اشتهر بها لاعوجاج في ساق قدمه، ولما رأت أمه ذكاءه وحكمته قالت: لولا حنف في رجله لكان سيد قومه. وأصبح بعد ذلك سيد قومه مع هذا الحنف، ثم أصيب t بعد ذلك في إحدى المعارك فأصبح أعور. وقد دعا له النبي قبل أن يراه، يُروى عن علي بن زيد عن الحسن: أن الأحنف بن قيس قال: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان بن عفان t إذ جاء رجل من بني ليث وأخذ يدي فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. فقال: هل تذكر إذ بعثني رسول الله إلى قومك بني سعد، فجعلت أعرض عليهم الإسلام وأدعوهم إليه؟ فقلت لي: إنك تدعو إلى الخير، وتأمر بالخير، وجئتَ من عند من يدعو بالخير؛ فجعل الناس يدخلون في دين الله لمقولتك، فبلغت ذلك إلى النبي فقال: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ“.

 

ولم يكن الأحنف قد رأى النبي، فقد مات قبل وصول الأحنف لمبايعته على الإسلام؛ وبذلك فلا يطلق عليه لقب صحابي؛ فالصحابي كما قلنا قبل ذلك هو من رأى النبي.

 

وكان يقول إذا عمل عملاً صالحًا: ولكنني أرجو أن ينجيني الله بدعوة النبي.

 

عندما لمع نجم سيدنا الأحنف بن قيس (ونذكر أنه كان في الجيش الذي أنقذ سيدنا العلاء بن الحضرمي في طاوس، وكان تحت إمرة سيدنا أبي سبرة بن أبي رهم، فأبلى بلاءً حسنًا في القتال، ووصل خبره إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة وكان لا يعرفه)، أراد سيدنا عمر بن الخطاب أن يختبره؛ فدعاه إلى المدينة، وأبقاه فيها عامًا كاملاً يعطيه أعمالاً ويراقبه فيها، وكانت نصيحة الأحنف بن قيس لسيدنا عمر بن الخطاب خلال هذه السنة بغزو بلاد فارس؛ فوافقه سيدنا عمر بن الخطاب على ذلك، وقال له: لقد سبقتني القول. وبدأ سيدنا عمر يرسل الجيوش لغزو بلاد فارس.

 

وقال له سيدنا عمر بن الخطاب بعد انتهاء السنة: يا أحنف، إن النبي قد حذرنا من كل منافق عليم (والمنافق العليم هو من يعرف عن الإسلام الكثير، ويدعو إلى ما يخالفه بالطعن فيه)، فحاولت اختبارك سنة، ووضعتك تحت عيني فوجدت علانيتك حسنة، وإني لأرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك؛ فاذهب إلى أهل البصرة فإني قد وليتك على جيش من جيوشها.

 

ثم أرسل رسالة إلى سيدنا أبي موسى الأشعري سيد قومه، فقال له: أتاك الأحنف بن قيس سيد قومه، فَخُذْ برأيه، وأَمِّرْه على جيش من الجيوش، وأرْسِلْه إلى خراسان. وكان ذلك في بداية العام التاسع عشر الهجري، حيث انشغل المسلمون بفتح أصبهان والقتال في منطقة الري، فلم يخرج الأحنف بن قيس بجيشه من البصرة إلا في أواخر العام الحادي والعشرين من الهجرة، وتوجه سيدنا الأحنف بن قيس بجيشه إلى خراسان.

 

ونذكر عن سيدنا الأحنف بن قيس أنه كان صالحًا ورعًا تقيًّا، وكان كثير الصلاة بالليل، وكان إذا أذنب ذنبًا ذهب إلى بيته وأوقد شمعة، وكان يضع المصباح قريبًا منه؛ فيضع إصبعه على المصباح، ثم يقول: يا أحنف، ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا.

 

ومن أقواله المشهورة: أن أحد الناس سأله وقال له: يا أبا بحر، إن فيك أناة شديدة، فأين العجلة في أمورك؟ فيقول: إني قد وجدت في نفسي عجلة في ثلاثة أمور: “في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها، وفي جنازتي إذا حضرت حتى أضعها في حفرتها (وكما نعلم أن النبي كان يحضُّ على إسراع دفن الموتى)، وفي ابنتي إذا خطبها كفؤها حتى أزوجها”.

 

وسأله أحد الناس، فقال: يا أحنف، بمَ سُدت قومك وأنت أحنف أعور؟ فقال: بتركي ما لا يعنيني.

 

وبعد أن يُؤَمَّرَ الأحنف على الجيش يتوجه إلى خراسان، وفي طريقه يمر بأصبهان وقد حاصرها سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فيستكمل طريقه إلى خراسان دون الاشتراك مع جيش عبد الله بن عتبان؛ لأنه ملتزم التزامًا شديدًا بتنفيذ أوامر سيدنا عمر بن الخطاب t.

 

ولما توجه سيدنا الأحنف بن قيس إلى عمق البلاد الفارسية ليفتحها واجه في بادئ أمره مدينة “هَراة”، وهذه المدينة تقع في غرب أفغانستان، ففتحها سيدنا الأحنف بن قيس عَنْوة، وبعد الانتصار الذي حققه سيدنا الأحنف بن قيس في هراة بدأ بإرسال الجيوش من داخلها؛ فأرسل جيشًا لفتح مدينة سَرَخْس على رأسه الحارث بن حسان، ويرسل مطرف بن عبد الله إلى “نيسابور” وتقع سرخس ونيسابور في الشمال وتسقط المدينتان، ويتوجه الأحنف بن قيس بالقوة الرئيسية من هراة إلى “مرو الشاهجان” التي فيها يزدجرد، وعندما يعلم يزدجرد الثالث بقدوم جيش المسلمين، يترك في مرو الشاهجان كنزه الدفين الذي جمعه من المدائن وحلوان والرَّيِّ وغيرها، ويدفنه في مكان لا يعلمه أحد، ويتجه إلى “مَرْو الرُّوذ” وهي تقع على بعد مائتي كيلو متر من مرو الشاهجان على أقصى حدود الدولة الفارسية، فبعدها مباشرة تقع الصين، واستولى الأحنف بن قيس على مرو الشاهجان واستخلف عليها حاتم بن النعمان الباهلي، وتوجه بجيشه إلى مرو الروذ لمتابعة يزدجرد، وعلم يزدجرد أن جيش المسلمين يتابعه وقادم من مرو الشاهجان، فهرب إلى أقصى شمال الدولة الفارسية إلى مدينة بلخ، وهذه المدينة على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترًا من مرو الروذ وتقع في أوزبكستان اليوم.

 

وبلخ هي أقصى الشمال وأقصى الشرق، وبعدها نهر جيحون ووراء هذا النهر الأراضي التركية، وفي الشرق مملكة الصين، وبين مملكة الصين ومملكة الترك مملكة الصُّغْد وقد اندثرت هذه المملكة مع الزمان.

 

وكان يزدجرد قد أقام المعاهدات مع هذه الدول الثلاثة: ألا نغزوهم ولا يغزونا، ومن شروط المعاهدة أن يدافع بعضنا عن بعض وقت الأزمات. وقبل أن يهرب يزدجرد من مرو الروذ إلى بلخ أرسل إلى هذه الممالك الثلاثة لينجدوه من هذا الهجوم المتوالي، والمطاردة العنيفة من المسلمين، ويتوجه يزدجرد بجيشه إلى بلخ، ويستولي سيدنا الأحنف بن قيس على مرو الروذ ويرسل فرقة إلى بلخ، ويتبعها هو بكامل الجيش بعد السيطرة على مرو الروذ ويصل إلى بلخ، ولم يجد يزدجرد مكانًا يهرب إليه، فقد وصل إلى أقصى نقطة في مملكته، فقد سقطت كل الدولة الفارسية.

 

وأثناء خروج يزدجرد من مرو الروذ إلى بلخ يستسلم إقليم طخارستان في شمال الدولة الفارسية من ناحية جرجان وأقصى شمال خراسان، ويستسلم هذا الإقليم دون قتال، وولَّى عليه سيدنا الأحنفُ بن قيس ربعيَّ بن عامر -رضي الله عنهما- الذي كان هو أول الرسل الذين ذهبوا إلى رستم في موقعة القادسية.

 

ولو رجعنا إلى الوراء خمسة عشر عامًا سنجد ربعي بن عامر في المدينة وفي غزوة الأحزاب، وأثناء حصار المشركين للنبي والمسلمين، وما أصاب المسلمين -في ذلك الوقت- من الخوف والجوع والشدة، ثم أصبح بعد خمسة عشر عامًا أميرًا على طخارستان.

 

ولم يبق أمام يزدجرد إلا محاربة المسلمين، وإلى الآن لم يأتِ إليه مددٌ من الممالك الثلاثة التي أرسل يستحثها لإرسال المدد لينقذوه، ولما وصلت الرسائل إلى ملك الترك وملك الصغد وملك الصين، قرر ملك الصغد وملك الترك أن يرسلا مددًا لمساعدة يزدجرد في حربه مع المسلمين، أما ملك الصين فكان رده مختلفًا، والحوار الذي دار بين ملك الصين ورسول يزدجرد كان حوارًا عجيبًا أسلم به كثير من حاشية ملك الصين.

 

ولما تقدم سيدنا الأحنف بن قيس إلى بلخ ووجد جيش الفرس وفيه يزدجرد، كانت أول معركة يلتقي فيها المسلمون مع يزدجرد منذ بداية الفتح في بلاد فارس إلى هذه اللحظة.

 

أما عن تفاصيل هذه الحرب، وما دار بين ملك الصين ورسول الفرس من حوار، ونتيجة هذا الحوار، وما الذي فعله ملك الصُّغْد وملك الترك، فهذا ما نعرفه في المقال القادم إن شاء الله.

السابق
التنصير : التعريف وأبرز الشخصيات
التالي
موقعة الجسر